لعله من مساوئ العلاقة مع الجار الليبي أنه ليس بالإمكان اختيار من يكون بجوارك و لعله من المفارقات أن يكون لتونس هذا البلد المتسامح المسالم جارة أسمها ليبيا ظل زعيمها الراحل المرحوم معمر القذافي يمثل خطرا داهما و مستمر طيلة فترة حكمه إلى حين رحيله بتلك الطريقة المرعبة التي تؤكد كمية الحقد الذي توغل صدور شعبه الذي ساسه بقوة الحديد و العنف و الاستبداد.
أحمد الحباسي
حين جاءت “الثورة الليبية” أو ما سمى بهذا الإسم من باب مجاراة ما حصل في تونس كان في ظن الكثيرين من الشعب التونسي أن الأمور ستتغير نحو الأفضل و أن كرامة التونسي ستصان سواء بالنسبة لمن يشتغلون داخل القطر الليبي أو بالنسبة لمن يعيشون داخل التراب التونسي لكن ما بالطبع لم يتغير لأن القيادة الليبية الجديدة هي قيادة مراهقة تريد التعامل مع الشعب التونسي بالذات بسياسة أنا ربكم الأعلى و أن معارضتي لن تمر بسلام وهي تقوم بكل ما تقدر عليه من إساءة و إذلال و مس من كرامة الشعب التونسي الذي بات يشعر بتزايد كمية العداء لهذه القيادة الليبية و أنه قد ضاق ذرعا بالتصرفات الحمقاء لهذه القيادة المتهافتة.
بعد مرور فترة كافية منذ ما يسمى بالثورة الليبية سقطت كل الأقنعة و انكشف المستور و أصبح بالإمكان تسمية الأشياء بأسمائها و انتهى عصر الحياد و الترقب و الصبر و الحقيقة الماثلة تقول أن الجار الليبي ذو مزاج متقلب و أن استمرار التعامل معه بنفس الطريقة لم يعد منتجا أو مقبولا و أنه حان الوقت لإشعاره بمنتهى الحزم و الجدية بأن عهد التساهل على الإهانة و الصبر على المكروه قد بات من الماضي و أنه عليه أن يتدبر أمره مليّا فإما الالتزام المطلق و الجدي و الملموس بآداب و متطلبات الجوار أو قطع العلاقات – و إن كان ذلك أسوأ حل يمكن التفكير فيه – مع تحمل النتائج.
الجار المتغطرس
لقد عملت تونس كل ما وسعها خاصة أثناء فترة الثورة الليبية و فتحت حدودها و تقاسمت رغيف الخبز و تحملت ما تحملت من نزوات بعض الإخوة الليبيين الذين لم يراعوا حرمة الجوار و لا آداب الضيافة و تجاوزت قيمة علاج الجرحى الليبيين في المشافي التونسية المليارات التي أصرت القيادة الليبية المتعاقبة على عدم دفعها مسرفة في الوعود الزائفة معبرة عن تصرف غير أخلاقي و غير محترم لم تقم به مع أية دولة ـأخرى.
لقد تجاوزت الميليشيات المتصارعة في ليبيا كل الأعراف و الأخلاق و النواميس و أساءت بعنف غير مسبوق لروح العلاقة بين البلدين حين اختطفت مواطنين تونسيين الأول سفيان الشورابى و الثاني نذير القطاري و نكلت معنويا بعائلاتهما و بمشاعر كل التونسيين و لا تزال السلطة الليبية تماطل بشكل غير لائق في كشف مصيرهما رغم مرور أكثر من عشر سنوات.
لا أحد ينكر أن السلطة التونسية بقيادة حركة النهضة قد فعلت كل شيء للتعتيم على ملف الاختطاف و قدمت خدمات جليلة للخاطفين في إطار علاقتها الآثمة و المشبوهة بالميليشيات المتطرفة و لكن من الثابت أن القيادات الليبية المتعاقبة قد تعمدت طي الملف و تجاهل دموع عائلتي المخطوفين و لم تتحمل مسؤوليتها القانونية كجهة تحمى كل رعايا الدول المتواجدين على أرضها و هنا نصرّ على أن هذا الاستخفاف بأرواح التونسيين بالذات ليس خطأ بل هو جريمة دولة باتت ترعى الإرهاب حتى لو أضرت ممارسته من بعض الميليشيات الوحشية بعلاقتها بدولة جارة شقيقة تحملت وزر نزوات قيادات غير واعية.
تجمع كل التقارير و التصريحات و واقع الأشياء أن السلطة الليبية بقيادة المشير خليفة حفتر و التي تحكم جزء مهما من التراب الليبي لم تنظر بعين القبول و الرضا للموقف التونسي الذي فضل الحياد فى هذا الصراع الدموي الحاد بين الفرقاء الليبيين و بهذا المعنى فقد اتخذت قرارا غير منصف بمنع التعامل مع كل الشركات و الجهات ذات العلاقة بإعادة الأعمال في ليبيا مستنجدة بأطراف أخرى متجاهلة أن تونس تبقى في كل الأحوال الشريان الاقتصادي و الاجتماعي الأهم و أن إغلاق هذا الشريان من الجانب التونسي لو حصل ستكون له تبعات سلبية مؤلمة سواء على الشعب أو السلطة الليبية القائمة.
وعود واهية و قرارات متضاربة
في الجانب الآخرلا تزال حكومة السيد عبد الحميد الدبيبة تمضغ في الزبيب (كما يقال) للجانب التونسي مقدمة وعودا واهية تتضارب مع قرارات متعاقبة متضاربة و لا تزال نفس المخاطر الأمنية الناتجة عن عدم ضبط الحدود من الجانب الليبي ماثلة بشكل خطير يمس بالأمن القومي التونسي و بفرص الاستثمار مكلفا الجهة التونسية أموالا طائلة في شراء أسلحة لإحكام غلق المنافذ أمام ميليشيات الإرهاب المتسللة.
هناك نزعة مرضية لدى كثير من القيادات و العناصر الليبية التي تقود البلاد أو تشكل ميليشيات مسلحة مهمتها إثارة العواصف و القيل و القال و بالمختصر المفيد فإنه على هؤلاء جميعا أن يصحو من “السكرة الثورية” و من هذه النزعة المريضة بالغرور و النرجسية في تعاملهم مع تونس لأن مساعيهم المبيتة ستخيب مهما أضرت بالتونسيين و سيحصدون الفشل.
نقولها مرة أخرى بمنتهى المرارة و الأسف و الحزن أن كل “الجهود” التآمرية و كل محاولات عرقلة النمو الاقتصادي التونسي لن تفلح و أن كلفة العناد الليبي سيحملها الشعب الليبي في نهاية الأمر لأن صبر الشعب التونسي بالذات قد نفذ و بات ينظر للعلاقة مع هذا الجار بمنتهى الإحباط و الريبة بل هناك من يتساءل أما آن للقيادة الليبية أن تراجع نفسها و تتذكر ما قدمه هذا الشعب التونسي من تضحيات جسيمة لصون كرامة أشقائه الذين بادلوه هذه المشاعر و الأفعال النبيلة بتصرفات مسيئة و بتصريحات خارجة عن الذوق السياسي.
كاتب و ناشط سياسي.