في كتابه “من تونس إلى كاسي : الأوديسة”، يقدم فؤاد الغرايري Fouad Grairi رؤية مؤثرة ومعبرة عن ذكرياته العميقة من الطفولة، حيث يستعرض بأسلوب حميمي قصة رحلته الشخصية من تونس إلى كاسي في فرنسا. في إحدى تلك الذكريات، يصف الغرايري بتفاصيل دقيقة مشهدًا عاطفيًا يتصدره شخص جدته المحبوبة، التي كان يطلق عليها بحنان “أوما مينا”.
في هذا المشهد، تظهر الجدة كامرأة قوية ونشيطة، ذات شعر أحمر طويل وعينين فاتحتين، تعمل بجد تحت أشعة الشمس التونسية الحارقة. كانت منشغلة بغسل الملابس، وحركاتها تبدو كرقصة متناسقة، حيث تعصر وتنشر الأغطية البيضاء بمهارة ورضا، بينما ترتسم على وجهها ابتسامة تعكس سعادتها بالعمل الذي تؤديه. وبينما كانت تغني أغنية لأم كلثوم، المغنية الأسطورية المصرية، كان صوتها الصافي يتردد في أرجاء الحي، يملأ الأجواء بجو من الشعرية والحنين.
يجلس بجانبها طفل صغير لم يتجاوز الرابعة من عمره، يراقبها بعينين مملوءتين بالإعجاب والحب، وهو يتناول الفواكه المحلية مثل السفرجل والخروب والتين الشوكي، غير مدرك بعد أن بذور الخروب الصغيرة التي يتناولها بشغف ستكون لاحقًا وحدة قياس الألماس، المعروفة بالقيراط. في براءته وسعادته الطفولية، يرى هذا الطفل في جدته مثالاً للمرأة القوية والمستقلة التي تبدأ يومها مع شروق الشمس وتواجه تحديات الحياة بروح مرحة وابتسامة دائمة.
ومع أنه كان صغيرًا جدًا لوضع كلمات على مشاعره، إلا أنه كان يحب جدته حبًا عميقًا. هذا الطفل لم يكن سوى فؤاد نفسه، الذي يعترف في النص بأنه ورث عن جدته الكثير من صفاتها، سواء كان ذلك في قوتها أو تفاؤلها أو حيويتها. يضيف غريّري أن اسمها “أوما مينا” هو اسم تذكره دائمًا بحب وتقدير.
هذا المشهد ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو رمز لعلاقة عميقة أثرت بشكل كبير على تكوين شخصية الكاتب وهويته. من خلال هذه اللحظة، يظهر لنا الغرايري كيف كانت جدته شخصية مؤثرة في حياته، تغرس فيه قيمًا ومبادئ استمرت معه طوال مسيرته، من شوارع تونس إلى كاسي. الكتاب بأكمله يمكن اعتباره تكريمًا لهذه الجذور العائلية القوية ولتلك العلاقة التي صاغت جزءًا كبيرًا من هويته وتفكيره، مقدّمًا لنا رحلة في الزمن والمكان من خلال عيون طفل صغير وجد في جدته نموذجًا للإنسانية والقوة.
جمال قتالة