الوظيفة العموميّة في تونس : الجنرالات أكثر من العسكر

بينما تبقى الوظيفة العموميّة جامدة متصلّبة كالصنم، تتغيّر الهياكل التنظيميّة للإدارة فيما يسمونه “مراجعات” أو “عمليات إصلاح”. وفي الواقع هي ليست سوى عمليات فتح انفاق وخنادق وطرق سريعة أمام المزيد من المنح والامتيازات. أحيانا يحولون مصلحة إداريّة بموظف أو اثنين إلى إدارة عامّة بإدارتين و 4 إدارات فرعيّة و 8 مصالح إداريّة. وأحيانا يخلقون هياكل إداريّة وهميّة لا معنى لها او لا جدوى منها، أو هياكل غير قابلة للإرساء لنقص أهل الخبرة والاختصاص. ولكنها في جميع الأحوال ثقوب ومغاور للمنح يستعملها كبار المسؤولين الفاسدين في عمليّات الإغراء والابتزاز والتهديد.

جمال سكراني

إنّ هذه الممارسات لا تقتصر على وزارة بعينها، وإنما هي شاملة لكلّ الوزارات والمؤسسات العموميّة. وليست وزارة التربية بأسوء من غيرها، وإنما أخصّها بالذكر من باب المعرفة والدراية والقدرة على الاستشهاد بأمثلة من أرض الواقع مصحوبة بالمؤيّدات.

لمن لا يعرف بعد، تملك وزارة التربية مرصدا، وبغضّ النظر عن الانحراف الهيكليّ الذي ألحقه بديوان الوزارة، فهذا المرصد يبقى نائما منذ تاريخ إحداثه سنة 2009. لست أقول هذا تجنّيا أو باطلا، ففي عصر الظواهر بامتياز، وقد أصدرت منظمة الأمم المتحدة تقربرا سنة 2014 يشير إلى اكتشاف ظاهرة جديدة بمعدّل كلّ أسبوع، لا نعرف للمرصد تقريرا واحدا علما وأن مهامه الرصد والملاحظة. ولكن لا يلاحظ النائم ولا يرصد إلّا في أحلامه.

تملك وزارة التربية إدارة فرعية مكلفة بالخارطة المدرسية تمّ إحداثها بالأمر 3779 لسنة 2009 والذي فرقع مكتب التخطيط إلى إدارة عامّة كما فرقع غيره من المصالح والمكاتب. يترأس الإدارة الفرعية كاهية مدير ويعينه في ذلك رئيسي مصلحة. ولكن يعينونه على ماذا؟ فوزارة التربية إلى الآن لا تملك خارطة مدرسيّة من أساسه.

أدارة كجيش المكسيك

تملك وزارة التربية إدارة فرعيّة للدراسات والتخطيط من مهامها إعداد الدارسات في علاقة بالاقتصاد والمساهمة في إعداد المخطط التنموي والميزانية، وتتطلب قدرات فائقة في تحديد المعطيات الهامة ثم جمعها وتحليلها واحتساب المؤشرات التي تساعد على اتخاذ القرار. يترأس هذه الإدارة إلى الآن أستاذ لغة عربيّة بمقتضى قرار مؤرخ في 26 جوان 2020 برصيد صفر دراسات.

لا شكّ في أنّ الاستثمار في التربية من اكثر المواضيع حديثا وأكثر المجالات خضوعا للدراسة. فالتعليم كما وصفه كيندي في إحدى أهم خطاباته “هو المدّ المرتفع الذي يرفع كلّ القوارب”. ولذلك أحدثت وزارة التربية وحدة الإحاطة بالمستثمرين عملا بأحكام الأمر عدد 771 لسنة 2010. يفوق عدد المديرين في هذه الوحدة عدد المستثمرين كما يفوق عدد المسؤولين فيها عدد الأعوان. أي أنها كجيش المكسيك في حرب تكساس، الجنرالات أكثر من العسكر، يا ابنة العسكر.

المنح و الامتيازات و هياكل أشباح

كثيرة هي الأمثلة في كلّ الوزارات، إدارات للاستشراف والبحوث والدراسات والتطوير والرقمنة والعصرنة، ومهام كبرى بعناوين جبّارة وعملاقة قد تجعلك تظن للحظة أنك في بلد يسبق الولايات المتحدة واليابان وروسيا بعقود أو قرون. ولكن على أرض الواقع لا وجود للاستشراف في إدارة الاستشراف ولا لأي دراسة في إدارة الدراسات ولا وجود لأيّ مستثمر في وحدة الاستثمار ولا وجود للحوكمة في خلايا الحوكمة ذاتها والقرارات مركزيّة جدّا في إدارات دعم اللامركزيّة. إنها ليست سوى هياكل أشباح ومصادر إضافيّة لامتصاص دماء التونسيين عبر قنوات المنح والامتيازات.

رحم الله الكاتب الشاذلي الخلادي مع كلّ نفس، فمحتوى كتابه في غاية الأهميّة. وحيث يمنكم مخالفة القواعد والحكم على الكتاب من عنوانه الرائع والمعبّر “تونس للموظفين”. وقد تحدّث الخلادي في كتابه عن منحة تُسندها دولة الاستعمار لموظفيها باسم “منحة القمل”. وها قد جاءت دولة الاستقلال والسيادة لتُسند المنح للقمل نفسه.”

موظف بوزارة الثقافة.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.