تونس : الحرب على الفساد ليست حكرا على أحد

قد لا تنجح الحرب على الفساد في تونس لأنها ولدت بإرادة قوية و لكن بلا تخطيط واضح و معلن و لا إجماع وطني. و قد تفشل و تتحول إلى حرب على طواحين الهواء حيث لم تنجح حرب لم تشارك فيها جميع مكونات المجتمع و لم تجند فيها كل القدرات بشكل تطوعي و جماعي و مخطط له بعناية فائقة. و ذلك لأن الفساد قد استفحل في البلاد منذ وقت طويل و تحول إلى منظومة قوية لا تكفى بعض الخطب و القرارات الغاضبة لزعزعتها.

بقلم أحمد الحباسي

 لعله من المفارقة أن يصرّ الرئيس قيس سعيد في كل إطلالة له على نفس المواقف و التصريحات التي تتعلق برغبته في محاربة الفساد و محاسبة الفاسدين و إرجاع الأموال المنهوبة من طرفهم للشعب التونسي. 

لعله من المفارقات أيضا أن يظن السيد الرئيس أنه بمحاولة إيقاظ و حثّ همّة القضاء سيحقق نصرا باهرا في هذه الحرب المعلنة كما أنه من سخرية القدر أن يظن بعض المتفائلين أو المنتسبين بالصدفة للرئيس أن محاربة الفساد و القضاء عليه يمكن أن يتم إنجازها بإلقاء بعض التهديدات و الخطب المتسمة بالغضب و النرفزة و دعوة القضاء ليقوم بدوره دون الانتباه إلى أن تسخير منظومة العدالة بهذا الشكل سيضر في نهاية الأمر بمصداقيتها المتآكلة أصلا بسبب توظيف القضاء منذ الاستقلال إلى الآن لأغراض سياسية ضيقة لا علاقة لها بالمصلحة العامة و لا بمفهوم العدالة كأساس للعمران.

فكرة ماضية في اتجاه غير صحيح

 لا شك و لا جدال أن حرب السيد الرئيس على الفساد و الإيحاء المتكرر للعموم بكونه من يخوضها وحيدا بعد أن تخلى الجميع و أن قيادته لهذه الحرب وفاء بتعهداته الانتخابية هي فاشلة في نتيجتها مهما فعل القضاء بسجن من  يراد القبض عليهم مع إبقاء عدد من الرؤوس الكبيرة  تمارس نفس نشاطها في إرباك الوضع المعيشي الذي بات لا يحتمل بعد أن تخلت الدولة – و لو جزئيا – عن منظومة الدعم و فشلت في توريد ما يكفي من السلع الضرورية و توزيعها لمستحقيها و تركت الأسعار ترتفع بصورة جنونية غير مسبوقة مكتفية ببعض البيانات المثيرة للإحباط و التي تتعلق بتخفيض وهمي في أسعار الدجاج و البطاطا متسببة في اختفاء المادتين من الأسواق بصورة شبه كاملة.

من المثير للسؤال أن تكون فكرة السيد الرئيس ماضية في اتجاه غير صحيح خاصة و أن محاربة الفساد يجب أن تمرّ قبلا بمعالجة أسباب انتشاره و كيفية تجفيف منابعه و محاصرة سبل استفحاله و سنّ قوانين رادعة إضافة إلى ضرورة التخطيط الجيد لاستباق الأزمات بتكوين مخزون جيد من المواد الأساسية يتم ضخها في الأسواق عند الضرورة  مع إعداد خطة محكمة بأسماء المحتكرين و مقرات مستودعات الخزن و منعهم من مزاولة نشاطهم التخريبي للاقتصاد الوطني.

لن تنجح  الحرب المتأرجحة على الفساد في ظل قضاء منهك و لا تتوفر لديه أبسط الأساسيات سواء على مستوى قلة القضاة أو قلة المكاتب و القاعات و المعدات و اللوازم و تحفيز الكتبة و توفير أدنى طلباتهم سواء على مستوى انتداب المزيد منهم أو على ما  تتطلب رسكلتهم و إعدادهم للاشتغال على المعدات الإعلامية المتطورة  من تدريب و فهم آليات السوق و خفايا الاقتصاد.  

لن تنجح الحرب أيضا طالما لم يتم إعداد إستراتيجية اقتصادية وطنية واضحة تراعى فيها آراء الفلاح و تقضي على مافيا احتكار العلف و البذور كما تراعى فيها متطلبات السوق من كميات الخضر و الغلال و المواد الأساسية إضافة إلى ضرورة بعث هيكل إعلامي  يقوم بدور متابعة حالة الأسعار و توفر المواد بالأسواق أو لدى “القشارة” و بائعي الخضر و تقديم نشرة يومية لغاية استباق الأزمات و تفعيل إجراءات الدولة لمواجهة هذه الأزمات المفتعلة.

الآن و بعد أن أمضى السيد الرئيس فترته الرئاسية الأولى في تعديل سياساته و التحويرات المؤسساتية مع إطلاق الشعارات و التهديدات و بعد أن اعتمد سيادته ما لا يقل عن خمسة رؤساء حكومات دون فاعلية تذكر لأي منهم فإنه لم يعد ممكنا القبول بمزيد التجريب و التدرب و التلعثم و غياب النتائج الملموسة في هذا المجال مثل غيره من المجالات.

ربما نجح الرئيس قيس سعيد في إزاحة كل معارضيه و خصومه لكن الثابت أنه لن يجد من يسنده أو يقف إلى جانبه طويلا إلا قلة نادرة من الموتورين مثل رياض جراد و نجيب الدزيري الذين لا يؤتمن لهما جانب لفرط زئبقية مواقفهما و تقلب آرائهما واستعدادهما لخدمة أي كان عن انتهازية واضحة. ألم يكونا من مساندي أحد عمالقة الفساد في تونس رجل الأعمال نبيل القروي الفار من ا لبلاد و الملاحق قضائيا ؟  

هل هي حرب على طواحين هواء ؟

من المؤكد أن  الرئيس يسير هذه المرة و أكثر من كل وقت مضى على صفيح ساخن وهو يعادي اتحاد الشغل و عدد من رجال الأعمال و يبالغ في التشكيك في القضاء و يمتنع عن تركيز المحكمة الدستورية و يقف ضد عدد من المحامين و بقية المهن الحرة و لا يفعل شيئا كبيرا لإعادة الثقة في الاقتصاد و يعادى عدد من الدول مهما كانت أهميتها و يزج ببعض المعارضين و الإعلاميين في السجن تحت يافطات مختلقة  فإن الحصيلة قد تكون في النهاية انصراف بعض من هذه الطاقات لتصبح نارا تحت الرماد ربما ستجدها يوما عالقة دون أن يستطيع أحد إطفاءها فاليد الواحدة لا تصفق،  يعنى أن محاولة احتكار موضوع الحرب على الفساد من طرف شخص واحد حتى لو كان رئيسا للجمهورية و مهما اعتمد على قوة الذراع الأمنية فإنه قد يفشل لأن الحروب المصيرية لا تخاض يطريقة مدروسة يتم التجنيد لها و رفع درجة الحماس الشعبي لخوضها و سنّ قوانين حاسمة و توفير كل الضمانات لممارسة القضاء دوره بكل حياد إضافة طبعا و أساسا إلى ضرورة أن تقوم الحكومة بإعداد خطة محكمة لمعالجة موضوع ندرة العلف و البذور و إنشاء مستودعات الخزن و مساعدة المنتج على التصدير بسن قوانين معينة.

قد لا تنجح الحرب على الفساد لأنها ولدت بإرادة قوية و لكن بلا تخطيط واضح و معلن و لا إجماع لذلك قد تفشل و تتحول إلى حرب على طواحين الهواء. حيث لم تنجح حرب لم تشارك فيها جميع مكونات المجتمع و لم تجند فيها كل القدرات بشكل تطوعي و جماعي و مخطط له بعناية فائقة. و ذلك لأن الفساد قد استفحل في البلاد منذ وقت طويل و تحول إلى منظومة قوية لا تكفى بعض الخطب و القرارات الغاضبة لزعزعتها.

كاتب و ناشط سياسي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.