ما يحدث في سوريا اليوم تكرار لمشهد رأيناه من قبل، وقد يتحقق السيناريو نفسه ويتكرر مشهد التخلص في أي وقت ترى فيه أمريكا أن الجولاني لم يعد يمثل سوريا الحرة، وعليها أن تبحث عن البديل، وعلينا أن نفهم ونقرأ السياسات جيدا من أن الدول العظمى أو الكبرى تتواصل مع بعضها لتتّحد مصالحها بعيدا عن الصغار المشاغبين.
فوزي بن يونس بن حديد
المشهد السوري لا يزال غامضا إلى حدّ الآن رغم تسابق الوفود العربية والغربية على تهنئة القيادة الجديدة في سوريا بالعهد الجديد بعد هروب الرئيس السوري السّابق بشار الأسد، ولم تكن الرؤية واضحة بما فيه الكفاية، بل إن الذي حدث يضع علامات استفهام كبيرة، فكيف لقوات معارضة للحكم السوري عجزت طوال أربعة عشر عامًا عن تحقيق مرادها وهو الإطاحة بالنظام السوري السابق، أن تصبح في لمحة عين قادرة على إزاحة النظام السوري بقيادته العسكرية والنظامية وتعلن أنها زحفت على دمشق بكل سهولة ودون قتال كالذي حدث يومها في بغداد حيث استسلم الجند وانهار الدفاع ودخل المحتلون أرض الشام وساحة الأمويين لنشهد المشاهد نفسها عندما تجمع العراقيون في ساحة بغداد يومها في التاسع من أفريل من عام 2003.
الكعكة السورية على المائدة السورية
هل يقبل المنطق والعقل ما قيل في وسائل الإعلام المناهضة للنظام السابق من أن المعارضة السورية تمكنت من الدخول إلى دمشق وإزالة النظام السابق بالقوة، وإرساء عهد جديد بقيادة من كان المطلوب الأول في الولايات المتحدة الأمريكية ورصدها ملايين الدولارات للإدلاء بأي شهادة تدل على وجوده في أي مكان لاعتقاله ومحاكمته، لا شك أن الأمر فيه ما فيه من الحكاية والرواية، ولا يصدق عاقل بهذه الرواية، خاصة بعد ما علمنا أن سوريا محتلة من جهات عدة أبرزها أمريكا وروسيا وإسرائيل وتركيا وإيران، وكلها تبحث عن جزء من الكعكة حتى تهدأ الأمور في سوريا، لا شك أن ألزهايمر بدأ يصيب هذه القنوات، ولا شك أن العرب المهرولين نحو دمشق قد نسوا بسرعة فائقة أن الذين يهبّون إليه في سوريا هو من كان يسمّونه قبلُ من أزلام داعش، إلا تركيا وإسرائيل فقد تذكّرتا جيدا من يكون، أما تركيا فهي التي ساعدت المئات أو الآلاف من الوافدين على سوريا إبان الحرب على الدخول ومحاربة النظام طمعا في سقوطه لكنها تكوّت بلهيبهم بعدئذ.
بينما في إسرائيل، كان نتنياهو واضحا في كلمته الأخيرة عن سوريا قبل أيام من سقوط نظام بشار الأسد، وذكر أن الرئيس السوري يلعب بالنار، وفي ذلك إشارة خفيّة لسقوطه بعد أيام لم يفهمها كثير من الناس، وكانت بمثابة كلمة سرّ بين نتنياهو وأمريكا محتواها أن سقوطه بات مؤكدا ومحتوما تماما لطعن المقاومة في سوريا، وكشف أسرار خطيرة عن نظام الأسد الذي كان ينكل بمعارضيه ويعذبهم ويقتلهم. فهل كانت تلك الإشارة تحريرا للشعب السوري من نظام الأسد كما يظن بعض الناس أم تخلّصًا من عقدة كانت تخنق إسرائيل بعد الاتفاق مع لبنان على وقف إطلاق النار.
الشعب السوري أمام واقع جديد غامض
أيا كان التفسير، فإن الشعب السوري وإن كان قد تخلص من قهر وظلم النظام السابق وزعم أنه تحرّر من القيود والأغلال، فإنه يجد نفسه أمام واقع جديد غامض وضبابي لا يفتح آمالا كبيرة للعيش بحرية وسلام كما كان يعتقد.
والغرب وإن هرول إلى سوريا في الفترة الأخيرة وعبّر عن فرحه بإزالة النظام في سوريا ظاهريًّا، إلا أنه غير مستعد على الإطلاق للتعامل مع الإدارة الحالية رغم إبدائه الرغبة في ذلك وحديثه عن أن القيادة الجديدة في سوريا تسير في المسير الصحيح، غير أن الوقائع التاريخية أثبتت أن هذه التمثيلية التي يقوم بها الغرب قد قام بها قبلُ في تونس ومصر، حيث كانت حركة النهضة في تونس الحزب الأوفر حظا بأن يمسك بتلابيب الحكم وقد تركوه يفعل ذلك، ثم بعد ذلك دمّروه بعد أن اتضح لهم فقره السياسي واتجاهه الإسلامي الذي كان عليه.
ثم كان السيناريو نفسه في مصر، فقد تركوا الشعب المصري يعبر عن إرادته السياسية بسقوط الرئيس الأسبق حسني مبارك يوم 11 فيفري 2011 بعد انتفاضة عارمة، وظهر الإخوان المسلمون بكامل قوتهم، وظنوا أنهم صاروا أحرارا يفعلون ما يشاؤون، فكان انتخاب الشهيد محمد مرسي في 24 يونيو عام 2012، وكانت الفرحة عارمة محليًّا وإقليميًّا، لكن العالم كان يراقب الأمر بحذر شديد وبحث عن تدمير ما حصل في اللحظة المناسبة، بعد أن أوهموا الناس أنهم ينشدون الحرية والعدل.
تلك هي حيلتهم، حينما يريدون التخلص من نظام مستبد، يأتون بأناس يتحركون في المشهد السياسي، ليلعبوا بهم لعبة “الغُمّيضة” فترة من الزمن، حتى إذا رأوا أن مهمتهم انتهت تخلصوا منهم أو تركوهم للقدر، وما حدث في سوريا اليوم تكرار لمشهد رأيناه من قبل، وقد يتحقق السيناريو نفسه ويتكرر مشهد التخلص في أي وقت ترى فيه أمريكا أن الجولاني لم يعد يمثل سوريا الحرة، وعليها أن تبحث عن البديل، وعلينا أن نفهم ونقرأ السياسات جيدا من أن الدول العظمى أو الكبرى تتواصل مع بعضها لتتّحد مصالحها بعيدا عن الصغار المشاغبين، فتترك لهم الفُتات وتأمرهم بالدفع نحو المجهول، ومن لم يستطع تتركه للزمن ينهشه ويصارعه حتى النفس الأخير.
الشعوب العربية لا محالة هالكة
أما جامعة الخراب العربية، فلم تكن يوما جامعة للعرب، بل كانت نحسًا وتعسًا لمستقبلهم المخيب الذي تدهور بشكل سريع استطاعت فيه إسرائيل اختراق كل ما كان مستحيلا عليها أن تفعله، ولما رأينا العجب في التحول الدراماتيكي في السياسة العربية من تطبيع واضح مع الكيان الصهيوني ولامبالاة بالقضية الفلسطينية أدركنا جميعا نحن الشعوب أننا لا محالة هالكون، والخوف كل الخوف من تحقّق الآية الكريمة، “وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ”.
شارك رأيك