هل نحن نعيش حقا عهدا جديدا في العلاقات الدولية كما قال رئيس فرنسا مساء الأربعاء في كلمة تحذيرية و تحضيرية للفرنسيين؟ و هل إنتهت حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية بنظامها و تعهداتها و مؤسساتها و على رأسها منظمة الأمم المتحدة؟ أم أن الأمر يتعلق بإرهاصات طال أمدها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي و بروز قوة عظمى جديدة بدأت تقضم مساحات متزايدة من المجال الحيوي للقوى العظمى التقليدية؟
سعيد بحيرة

ربما تشكل كل هذه العوامل إجابة على السؤال، و ربما يكون إيمانويل ماكرون مطلعا على خفايا الأمور فحرص على استباق الأحداث من باب بيدي لا بيد عمرو… أو كما تقول العبارة الفرنسية: الرجل الحذر يعادل اثنين… و لا سيما بعد لقائه الشهير مع رئيس روسيا في بداية العملية العسكرية ضد اوكرانيا و قد جلسا على طرفي طاولة ضخمة جعلتهما على طرفي نقيض… و كذلك لقاء ماكرون مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية و قد كان ترامب منهمكا في العمل و لم يكلف نفسه حتى الوقوف لاستقبال ضيفه بل اكتفى بمنحه كرسي على جانب مكتبه كما يفعل القادة مع منظوريهم. لا شك في أن كل حركة في هذه الدوائر لها ما وراءها…
البيت الأبيض يزحزح اليقينيات
نعم. نحن نعيش أواخر عهد نعرفه بعنفوان حركات التحرر و الانخراط في حداثة سياسية و اجتماعية حركت فينا الآمال و الحماس، و نعرفه بالحرب الباردة و المواجهة غير المسلحة بين المعسكر الاشتراكي و المعسكر الغربي و كانا ينظران في عيني بعضهما مثل كلبي الخزف. و نعرفه أيضا بالعالم الثالث الرافض لهيمنة الرأسمالية و صلفها و هي التي تكتلت لتمحو آثار الحرب العالمية الثانية الدامية و تبني على أنقاضها اقتصاديات الرفاه و الاستهلاك و العجرفة السياسية تحت مظلة الولايات المتحدة الأمريكية القوة الأعظم في الحلف الاطلسي. و ظل الأوروبيون ينعمون بالرخاء طيلة عقود مطمئنين للمظلة السحرية، بل إنهم لم يتورعوا في كيل الانتقادات لأمريكا التي ساهموا في نهضتها. و كانت كل منابر الإعلام الأوروبي منخرطة في الحملة الانتخابية لكاملا هاريس منافسة ترامب و بتحاليل استعلائية تجاه هذا الأخير. و لم ينتبهوا إلى الرسائل التي وجهها إليهم منذ عهدته الرئاسية السابقة. و ها هو في البيت الأبيض يزحزح اليقينيات بخطاب لم تعهده مدارس العلوم السياسية.
لقد تراكمت التحولات و التغيرات و التطورات التكنولوجية طيلة ستة عقود، و تغيرت خارطة الدول و الأمم، و اهترأت منظومات سياسية كانت بالأمس القريب طلائعية. و اعترى الديمقراطية الليبرالية العقم فتمرد عليها أبناؤها و أخذهم الحنين إلى القومية و التعالي و الانغلاق أمام مخاطر رعاع البلدان الفقيرة، ثم تنادوا لتعلية الجدران أمام المهاجرين، و أصبح المواطنون يرتاحون أكثر لقوى اليمين الراديكالي فأعطوها أصواتهم في فرنسا و ألمانيا و هولندا و إيطاليا و المجر و رومانيا و سلوفاكيا و، و هم يزحفون نحو الحكم في عديد البلدان الأخرى.
و في هذا الوقت كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعيد النظر في أولوياتها و هي التي لم تتوقف عن خوض الحروب و التدخلات العسكرية و تدبير الانقلابات إلا أنها لم تنس أنها خرجت هاربة من فيتنام و من أفغانستان و من القرن الإفريقي.
كما أن الصعود السريع للصين كقوة عظمى دفع نحو مراجعات استراتيجية جديدة تحول الأنظار عن الأطلسي و المتوسط و تتمركز حول المحيط الهادئ و شرقي آسيا، و تعمل على منع الالتقاء الخطير بين روسيا و الصين. و في حين بقي الحزب الديمقراطي يعتنق القيم التقدمية الأوروبية اتجه الحزب الجمهوري إلى المعين القومي الأمريكي ليستمد منه قيما محافظة و مراجع انعزالية و حنينا إلى الثروة و العظمة فكان رجل الأعمال دونالد ترامب أفضل ممثلي هذا التوجه. و خلال عهدته الرئاسية السابقة بعثر أوراقا كثيرة منها الملف النووي لكوريا الشمالية و إيران، و منها تكريس التفوق الصهيوني في الشرق الأوسط، و منها حتى ملف الصحراء الغربية!!
أما في أوروبا فقد طلب دفع مزيد من الأموال مقابل المظلة الأمريكية، و لم يتوانى في ابتزاز جماعة الخليج و شبه الجزيرة العربية و قد استجابوا بسرعة. و لم لا يستجيبوا و قد قال لهم صراحة أنه لو يتخلى عنهم أسبوع واحد فإن عروشهم ستتهاوى… و ما أمر التبعية و الالتحاف ببرنس الغير! فهذا العالم العربي لم يجد له مكانا لا في منظومة بعد الحرب العالمية الثانية و لا في المنظومة بصدد التشكل… فهو ممزق بالصراعات و فساد الحكم و تبذير الثروات، و هو حاضن لقواعد الجيوش الأجنبية التي تبتزه ، و حتى قمة حكامه الأخيرة أعادت على مسامعنا أسطوانة الجامعة العربية التي أصابها الخرف.
تململ مارد الحرب في أوروبا
و أمام هذا المشهد المنذر بالعواصف تململ مارد الحرب في أوروبا و تنادى القادة للأخذ بزمام الأمور و الاستعداد للحرب. بل إن رئيس فرنسا قرر توسيع المظلة النووية الفرنسية لتشمل كل أوروبا تحسبا لعدوان روسي محتمل، و يتجه الأوروبيون لحماية سماء أوكرانيا بمائة و عشرين طائرة مقاتلة… إنه قرع لطبول الحرب التي كانت تعود بصفة دورية إلى القارة العجوز منذ حرب المائة سنة في القرن الرابع عشر إلى حرب الثلاثين سنة في القرن السابع عشر إلى الحروب القومية في القرن التاسع عشر، إلى الحرب العالمية الأولى ثم الحرب العالمية الثانية…
فهل حان زمن الحرب العالمية الثالثة التي نبه من مغبتها الرئيس الأمريكي و هو يحذر زيلنسكي؟ و هل تتخلى شعوب أوروبا عن رفاهيتها لتنخرط في هذا النفير المتسرع؟ و الثابت أن تمرير الخطاب الحربي لن يتم بسهولة أمام قوى اليمين المتربصة بالحكم بدعم أمريكي.
باحث جامعي و محلل سياسي.
شارك رأيك