لقد أصبح موضوع المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء محلّ جدل واسع بسبب تفاقم حالات المواجهة والاعتداءات وتصاعد وتيرة نداءات المواطنين المـُستنجدة بالدولة. من الواضح – لو أخذنا مدينة العامرة بصفاقس- كمثال أنه ليس هناك مخططات مُحكمة للتعامل مع تداعيات هذه الهجرة غير النظامية، في إطارها القانوني وفي الملاحقة القضائية عند الاعتداء على الأشخاص والممتلكات.
العقيد محسن بن عيسى

سبق وأن تحدثت في الموضوع في مقال سابق، وأعود لإضافة بعض الآراء تحت ضغط الأحداث الجارية. الموضوع شائك ويحتاج لإرادة سياسية قوية وخطة عاجلة لتفادي مزيد من التوترات.
كسر دائرة الأخطاء
من المفروض ألاَّ تقع في السياسة العامة وخاصة الأمنية أخطاءً. وعندما يحدث أي خطأ أو إهمال أو تقصير فإنّ واجب المسؤول أن يقف جدّيًا وطويلاً عندها لمعالجتها. دعنا نتتبَّع بعض الأخطاء التي ساهمت في تعقيد الوضع على مستوى السلطة والجمعيات والمنظمات والمشغّلين وأصحاب محلاّت السكن والوسطاء وشبكات التهريب.
يمكن القول اليوم أن تونس على ما فيها من تحديات ورهانات، تعيش وضعًا استثنائيا في قضية المهاجرين غير النظاميين وارتدادات غياب سياسة هجرة واضحة. ليس هناك ما يفيد أنّ الدولة اعتمدت استراتيجيات استباقية لتنظيم تواجد هؤلاء المهاجرين على أراضيها، ولم يساعد الخطاب السياسي المتذبذب على تطبيق القوانين المتعلّقة بالإقامة والعمل بصرامة لتفادي الفوضى المـُستشرية.
هناك العديد من الجمعيات التي كان من المفروض ان تعمل على رفع الوعي في هذه القضية التي تنال مباشرة من السيادة الوطنية. لقد ركّز بعضها على الجانب الحقوقي دون تقديم حلول عملية لتنظيم هذه الهجرة أو تأطيرها. وغاب إسهام البعض الآخر بشكل فعّال في اقتراح بدائل قانونية ودفع نسق التنسيق بين المجتمع المدني والدولة.
لا يمكن في هذا السياق غضّ الطرف عن أخطاء المشغّلين الذين وظفوا مهاجرين دون عقود رسمية مما شجّع الكثير على البحث عن فرص عمل في ” السوق السوداء”. هذا فضلا عن تأجير مساكن بشكل غير قانوني وبطرق غير منظمة مما زاد من العشوائية وتغلغل شبكات الوسطاء. ولا أستبعد تنشيط شبكات التهريب والتسول والمخدرات والاجرام وتزوير الوثائق أو العقود الوهمية على هامش ذلك.
من العودة الطوعية الى الترحيل القسري
لا أريد الوقوف عند مصطلح “العودة الطوعية” للمهاجرين غير النظاميين كثيرا فالتعاون مع المنظمات الدولية أدّى إلى عودة أكثر من 7 آلاف مهاجرا غير نظامي إلى بلدانهم سنة 2024. أفهم حساسية مصطلح “الترحيل” دوليًا ولكن تطور الأحداث يفرض طرح المفاهيم المناسبة ومن ذلك “الترحيل القسري” على اعتبار أنّ الظاهرة خارجة عن القانون. لا يمنع ذلك من الأخذ بعين الاعتبار الاتفاقيات المبرمة دوليا ومع مع الدول المعنية (النيجر ومالي وساحل العاج وغيرها).
لا أتغاضى عن التحديات الدبلوماسية والإنسانية والقراءات القانونية الجارية، ولكن لا يمكن أيضا تجاهل العلاقة التفاعلية المفروض تواجدها بين الواقع المعيش والقوانين. لم يكن إصدار القانون عدد 7 المؤرخ في 8 مارس 1968 والمتعلق بحالة الأجانب في تونس عبثيًّا، فلقد نصّ على شروط دخول الأجانب وإقامتهم ومنح السلطات التونسية الحق في ترحيل كل من لا يحترم الشروط القانونية. ولا أعتقد أنّ القانون عدد6 المؤرخ في 3 فيفري 2004 والمتعلّق بجوازات السفر وثائق السفر وخاصة الفصل 50 منه حبرٌ على ورق. وما المانع من استعجال اصدار نصوص جديدة عند الاقتضاء حتى لا يوجد فراغ تشريعي لمواجهة الأزمة؟
نحن لا نعيش بمعزل عن العالم ولا بمعزل عن تجاربه، والدول العربية والمغاربية تؤكد أنّ الترحيل إجراء قانوني ومعتمد. في قراءة سريعة لبعض الأدبيات في هذا الخصوص يتبيّن أنّ:
الجزائر : نفّذت عدة عمليات ترحيل لمهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، خاصة إلى النيجر ومالي، مستندة إلى قوانين تنظيم الإقامة.
المغرب : تبنى نهجًا مزدوجًا بين التسوية والترحيل، حيث قامت السلطات بتسوية أوضاع آلاف المهاجرين، لكنها في الوقت نفسه رحّلت آخرين خاصة إلى الحدود مع موريتانيا أو الجزائر.
ليبيا : نظراً للظروف الأمنية، اعتمدت بشكل كبير على الترحيل القسري عبر التنسيق مع المنظمة الدولية للهجرة لترحيل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية.
دول الخليج : تعتمد قوانين صارمة بخصوص الإقامة والعمل، حيث يتم ترحيل المخالفين بانتظام، خاصة عند انتهاء صلاحية التأشيرات أو مخالفة شروط العمل.
هناك حاجة لأن تتحرّك الدولة بذاتها وبترسانة قوانينها لحماية أمنها الوطني الداخلي والخارجي.
صياغة الرأي العام
لا شك أنّ تونس تحترم التزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان وتسعى إلى معالجة ملف الهجرة مع ضمان سيادة القانون. وعلى هذا المعنى يلعب الإعلام دورًا محوريا في إدارة الأزمة القائمة عبر صياغة خطاب متوازن وواقعي ومسؤول وفي ثلاث اتجاهات رئيسية:
– توضيح المسوغات القانونية للترحيل الذي لا يعني عدم احترام حقوق الإنسان، وربطه بالاستقرار الداخلي، وتفنيد المبالغات التي تصوّر المهاجرين كخطر وجودي. وتجاوز متاهات الجدل القانوني فالترحيل لا يستهدف جميع المهاجرين، بل فقط من هم في وضع غير قانوني أو يمثلون تهديدًا للأمن العام.
– الاعتراف بالمخاوف المشروعة للمواطنين دون تأجيجها والتعامل بعقلانية تجاه التوتر القائم وطمأنتهم وإبعادهم عن خطاب الكراهية. فالتحريض والانجرار وراء العنف قد يؤدي إلى اضطرابات داخلية نحن في غنى عنها، وإلى أضرار أكبر على المجتمع ككل.
– حماية صورة تونس دوليا فالخطاب الإعلامي يجب أن يعكس حزم الدولة فبقدر ما هي ملتزمة بتنظيم الهجرة بما يحمي حقوق الجميع لن تسمح بأي تجاوزات تمس بأمن المواطنين أو كرامة المهاجرين. مع التأكيد على أنّ تونس بلد مضياف ودولة قانون تدعو احترام الثقافة التونسية والتعايش السلمي مع المجتمع.
الخطاب الأمثل اليوم يجب أن يكون هادفًا ويتضمّن حلول عملية ويخاطب كل الأطراف المعنية مع التأكيد على القيم المشتركة والمصلحة العامة. فالتسيب والنقاش البيزنطي في هذا المرحلة يفاقم المشاكل ولا يحلها وأطروحات الخبراء المزعومين نموذجاً.
شارك رأيك