حمة الهمامي يكتب: “أربع حكايات من وحي مسيرة الجمعة 25 أفريل”

على اثر التحرك الاحتجاجي الكبير الذي دعت إليه عائلة المحامي و القاضي الإداري المتقاعد، أحمد صواب الصادرة في حقه الاربعاء الماضي بطاقة إيداع من طرف القطب القضائي لمكافحة الإرهاب و شارك فيه بكثافة جموع من الشباب الطلابي و من الكفاءات التونسية و النقابيين في جميع القطاعات و من عديد الأحزاب المعارضة للسلطة الحاكمة حاليا، عادت بالمناضل اليساري حمة الهمامي، الأمين العام لحزب العمال، الذاكرة إلى الوراء القريب و البعيد ليكتب ما يلي على حسابه الرسمي بصفحات التواصل الاجتماعي و جاء كما يلي تحت عنوان: “أربع حكايات من وحي مسيرة الجمعة 25 أفريل”:

الحكاية الأولى:
حدَثَانِ جَدّا في الأيّام الأخيرة أيقظا وعي العديد من النّاس وأخرجاهم، نساء ورجالا، كبارا وصغارا، من غفوتهم وفتحا أعينهم على الفاشيّة الزّاحفة… الحدث الأوّل صدور الأحكام في قضيّة “التّآمر”، وقد تراوحت بين 4 سنوات و66 سنة سجنا… وكان المجموع 892 سنة سجنا موزّعة على 37 “متّهما” بين موقوف ومحال في حالة سراح أو في حالة فرار… وهذا المجموع يفوق عمر الدّولتين الأمويّة (90 سنة) والعبّاسية (500 سنة) معا بـ302 سنة كاملة. ما رجّ النّاس هو حرّية تصرّف سلطة الانقلاب المطلقة في توجيه التّهم واستعمال القوانين والطّريقة البرقيّة (expéditive) التي جرت بها المحاكمة. أقصر محاكمة بهذا الحجم في تاريخ بلادنا مع توزيع سخيّ وغير مسبوق لسنوات السّجن لقاء تهم “وهميّة” حسب عبارة الأستاذ عياض بن عاشور… الحدث الثّاني يتمثّل في اعتقال الأستاذ المحامي أحمد الصّواب… وكما قال أحدهم في تعليق في الشّبكة الاجتماعيّة “أحمد صواب جاب النّاس للصّواب…”. لم ينطق الرّجل بما فيه إرهاب أو تهديد وإنّما استعمل استعارة، بعد إشارة إلى تجريح في رئيس المحكمة خلال الجلسة، ليقول إنّ القاضي يحكم و”السكّين تحت أو فوق رقبته” أو بعبارة شعبية أخرى “صبعو تحت الزرسة” أي تحت الضغط لا باستقلالية حسب ما تقتضيه قواعد القضاء المستقل… وجد أحمد صواب نفسه في مواجهة “قفّة” بلْ “شكاَرَة” من التّهم استعملت لتركيبها قوانين الدّنيا كلّها، المجلّة الجزائيّة وقانون الإرهاب ومجلّة الاتّصالات والمرسوم عدد 54… هذان الحدثان بيّنا أنّ ماكينة القمع الفاشيّ تحصد بلا هوادة… توزّع التّهم كما تشاء وتستعمل القوانين التي تشاء وتوزّع الأحكام وفق ما تشاء “كاِلعام كاِلعشرة كِالثلاثين أو الستّين سنة”… حتّى الحلوى (وكانت تسمّى “بيس قرودة”) كانت توزّع علينا في طفولتنا “في العيد الصغير” باتّزان “باش سنّينا ما تسوّشش” فما بالك بسنوات الحبس “اللّي تسوّس البدن وتقضي عليه”. هذان الحدثان أكّدا أنّ وقت التّعبئة الدّيمقراطيّة حان لوقف زحف الفاشيّة الشّعبويّة قبل أن تأتي على الأخضر واليابس… جماهير متنوّعة في السنّ وفي الجنس وفي الأفكار… كلّها كانت في الشّارع تصرخ “حرّية، حرّيّة، حرّيّة”… والجميع محقّ… الإنسان دون حرّية يمكن أن يكون أيّّ شيء عدا كونه إنسانا… “حرّية، حرّية، حرّية” بلا هوادة وبلا خوف أو تردّد أو ارتباك دفاعا عن إنسانيّتنا وكرامتنا… فلتستمرّ التّعبئة الديمقراطيّة بلا كلل ولا ملل… “فلا بدّ للقيد أن ينكسر”.
ـ***ـ
ا

الحكاية الثّانية:
حبس الخليفة المتوكّل على اللّه، عاشر الخلفاء العبّاسيّين (847م/861م) الشّاعر علي بن الجهم القرشيّ (803م/863م) وذلك إثر نميمة… وقد كتب هذا الشّاعر قصيدا من سجنه بعنوان: “قَالَتْ حُبِسْتَ فَقُلْتُ لَيْسَ بِضَائِرٍ” وقد لاقت منها الأبيات التّالية هوى في نفسي:
“قَالَتْ حُبِسْتَ فَقُلْتُ لَيْسَ بِضَائِرٍ
حَبْسِي وَأَيُّ مُهَنَّدٍ لَا يُغْمَدُ
أَوَمَا رَأَيْتِ اللَّيْثَ يَأْلَفُ غَيْلهُ
كِبَرًا وَأَوْبَاشُ السِّبَاعِ تَرَدَّدُ
وَالشَّمْسُ لَوْلَا أَنَّهَا مَحْجُوبَةٌ
عَنْ نَاظِرَيْكِ لَمَا أَضَاءَ الفَرْقَدُ
وَالبَدْرُ يُدْرِكُهُ السِرَارُ فَتَنْجَلِ
أَيَّامُهُ وَكَأنَّهُ مُتَجَدِّدُ
وَالغَيْثُ يَحْصُرُهُ الغَمَامُ
فَمَا يُرَى إِلّا وَرِيَّقُهُ يُرَادُ وَيَرْعَدُ
وَالنَّارُ فِي أَحْجَارِهَا مَخْبُوءَةٌ
لَا تُصْطَلَى إِنْ لَمْ تُثِرْهَا الأَزْنُدُ
وًلِكُلِّ حَالٍ مُعْقَبٌ وَلَرُبَّمَا
أَجْلَى لَكَ المَكْرُوهُ عَمَّا يُحْمَدُ
لَا يُؤْسِيَنَّكَ مِنْ تَفَرُّجِ كُرْبَةٍ
خَطْبٌ رَمَاكَ بِهِ الزَّمَانُ الأَنْكَدُ
وَالحَبْسُ مَا لَمْ تَغْشَهُ لِدَنِيَّةٍ
شَنْعَاءَ نِعْمَ المَنْزِلُ المُتَوَرَّدُ…
بَيْتٌ يُجَدِّدُ لِلْكَرِيمِ كَرَامَةً
وَيُزَارُ فِيهِ وَلَا يَزُورُ وَيُحْفَدُ”
ـ***ـ

الحكاية الثّالثة:
محكمة أمن الدّولة… “أيّام زمان”
أُحِلْنَا على محكمة أمن الدّولة في قضيّة “العامل التّونسي” في خريف 1975… كان عددنا 101 بين موقوفين (54) ومحالين في حالة سراح أو “فرار”. كان وقتها اسم محكمة أمن الدّولة يُرهِبُ ويُرْعِبُ ناهيك أنّ قانونها يُجيز لرئيسها إحالة أيّ محام وهو يرافع وتحويله إلى متّهم… لذلك قرّرنا، ونحن في عنفوان الشّباب، “باش نطيّحولها قدرها” بجرأتنا وشجاعتنا واستهزائنا من رئيسها وأعضاده واستفزازهم وتبليغهم أنّه لا شيء يُخيفنا في هذا العالم عدا ضمائرنا التي نريدها “مرتاحة” دائما، وأنّنا لا نرى فيهم سوى بيادق بيد السّلطة التّنفيذيّة لا يستحقّون أيّ احترام… حوادث كثيرة حصلت في هذه المحاكمة وهي تستحقّ الذّكر لكن واحدة بقيت عالقة في ذهني حدّ السّاعة لطرافتها… تعرّض جميعُنا لتعذيب وحشيّ ما يزال بعضنا يعاني من آثاره الجسيمة إلى حدّ اليوم (محمّد الكيلاني مثالا). وكنّا قرّرنا أن نفضح التّعذيب ونشهّر بجلّادينا كلّفنا ذلك ما كلّفنا… وهو ما فعلناه بل فرضناه… وكان من بيننا المناضل العنيد، الرّاحل محمّد الخميلي، أصيل المتلوّي. لم يجب على السّؤال الذي طرحه عليه القاضي ومرّ مباشرة للحديث عمّا تعرّض له من تعذيب وعند ذكر أعوان إدارة سلامة أمن الدّولة (DST) التي كان اسمها يُرعب هو أيضا لأنّ التّعذيب فيها كان يُمارسُ بلا ضوابط ولأنّ جلّاديها كانوا يحظون بالحماية التامّة، “وخّر الخميلي وقدّم” ونعت هؤلاء الأعوان “بكلاب سلامة أمن الدّولة…” وكرّر العبارة مرّتين أو ثلاثة رغم تحذير الرّئيس فما كان من ممثّل النّيابة العموميّة إلّا أن طلب إحالته من أجل “النّيل من هيئة رسمية” وهي تهمة يصل عقابها إلى ثلاث سنوات سجنا. سجّل الرئيس الإحالة ولكنّه لم يبتّ في القضيّة مباشرة… ويوم صدور الحكم وكنّا مجمّعين في القاعة عدد 6 بحضور عائلاتنا والمحامين وعدد من متتبّعي الشّأن العام وبعض وسائل الإعلام، نادى الرئيس محمّد الخميلي ليقاضيه خلال هذه الجلسة، قبل إصدار الأحكام النّهائيّة (ليس فيها استئناف) من أجل تهمة النّيل من هيئة رسميّة. ذكّر القاضي رفيقنا “بالجرم” الذي ارتكبه في جلسة الاستنطاق فما كان منه إلّا أن أعاد على مسمعه ما كان قاله بكلّ برودة دم: “قلت لك عذّبوني كلاب سلامة أمن الدولة…” (كنّا يومها نرفع داخل القاعة شعار: تسقط محكمة أمن الدولة المتواطئة مع بوليس سلامة أمن الدولة). طلب الرّئيس من محامي “المتهم” إن كان له ما يقول… كان محامي محمّد الخميلي في هذه القضيّة الأستاذ الكبير، الرّاحل محمد الرّافعي… وكان الجميع ينتظر ما سيقوله والحال أنّ التّهمة واضحة و”المتّهم” معترف ومصرّ على ما “فعل”… خيّم الصّمت على القاعة… قام الأستاذ محمّد الرّافعي وتوجّه إلى هيئة المحكمة بكلّ جدّيّة وصرامة بالكلام التّالي: “سيّدي الرّئيس… إنّني أستغرب كلّ الاستغراب كيف توجّه محكمتكم مثل هذه التّهمة إلى منوّبي لأنّه وصف أعوان سلامة أمن الدولة بالكلاب… هذا الوصف ليس فيه أيّ نيل من كرامة هؤلاء الأعوان بل فيه مدح… ألم يقل الشاعر في مدح خليفة المسلمين (يقصد المتوكّل): “وأنت كالكلب في وفائك العهد…” (البيت للشّاعر علي بن الجهم) وقد كافأ الخليفة الشّاعر مكافأة ماليّة هامّة لصدقه… أطالب سيّدي الرّئيس بتبرئة منوّبي والحكم بعدم سماع الدّعوى…”.
انفجرت القاعة ضحكا “ودخلت بعضها”… رئيس المحكمة نفسه “دخل بعضو” وردّ مرتبكا: “نؤجّل القضيّة… نؤجّل القضيّة…”. ولم يعدْ لها أبدا ورحل محمّد الخميلي ولم يُسأل عنها بالمرّة إلى أن سقطت بمرور الزّمن…
الدّنيا حال وأحوال…
ـ***ـ

الحكاية الرّابعة:
“يا شعب يا مقموع زاد الفقر زاد الجوع”
“الشّعب يريد إسقاط النّظام”
“حرّيّات حرّيّات دولة البوليس وفاتْ”
“شادّين شادّين في سراح المعتقلينْ”
“الظّلم عندو نهاية والثورة جاية جاية”
“ولا بدّ للقيد أن ينكسر”
شعرت يوم الجمعة بأنّ أشياء تعتمل في أحشاء مجتمعنا… مجتمعنا الذي لا يتوقّف عن الحركة وإن بدا خاملا في لحظة من اللحظات…
“إنَّ ذَا عصْرُ ظُلْمَةٍ غيرَ أنّي
مِن وراءِ الظّلام شِمْتُ صباحَهْ”
السبت في 26 أفريل 202
حمّه الهمّامي

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.