بقلم أحمـد بـن مصطفـى *
جاءت الحملة التشويهيّة الأخيرة التي تعرض لها زيت الزيتون التونسي بإيطاليا لتسلّط الأضواء من جديد على النتائج الوخيمة للتخلف الصناعي العلمي والتكنولوجي التونسي .
هذا الوضع الذي يضطر تونس للتفريط في قرابة 80٪ من القيمة المضافة لصادراتها من زيت الزيتون غير المعلّب الذي يباع الجزء الأكبر منه إلى إيطاليا لتتولى هذه الأخيرة إعادة تصديره معلبا بعلامات تجارية إيطالية إلى أسواقها الخارجية ومنها خاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
والملاحظ أن سبب الحملة الإيطالية يُعزى إلى تفطّن الجانب الأمريكي إلى حصول عمليات غش في نوعية الزيوت الإيطالية مما دفع المصدرين الإيطاليين إلى محاولة التنصل من المسؤولية على حساب سمعة الزيت التونسي . وهكذا تتبيّن خطورة تبعيّة تونس الصناعية والتكنولوجية إلى الخارج في استغلال وتثمين وتصدير ثرواتها الزراعية كزيت الزيتون والطبيعيّة كالنفط والفسفاط والملح وغيرها.
وتتجسّد هذه التبعيّة المضاعفة بالنسبة لزيت الزيتون في اضطرار تونس لاستيراد أدوات التجهيز والإنتاج كالجرارات والمعاصر وتجهيزات مصانع التعليب والعلب وذلك لعدم قدرتها على تصنيعها محليا مما ينعكس سلبا على الميزان التجاري فضلا عن فقدان تونس لمواطن شغل عديدة مرتبطة بهذه الأنشطة ذات القيمة المضافة العالية.
وبذلك يتضح أن خسائر تونس جسيمة جراء تخلفها الصناعي والتكنولوجي حيث أنها بتخليها عن التصنيع والتثمين والإدماج المحلي لقطاع زيت الزيتون ولثرواتها الوطنية بصفة عامة، فإنها تستورد البطالة وتصدّر مواطن الشغل وتفرّط لصالح الأطراف الخارجية في الأنشطة والاجزاء الأكثر ربحيّة في كافة مراحل الإنتاج والتسويق والترويج والتصدير إلى الخارج .
النتائج الوخيمة لإهمال تونس للقطاعات الإنتاجية ولقطاع التصنيع
ويجدر التذكير في هذا السياق بالإحصائيات الرسمية لصادرات تونس من زيت الزيتون لسنة 2015 التي كانت قياسيّة حيث أنها تجاوزت 260 ألف طن بما قيمته حوالي ملياري دينار ما انعكس إيجابيا على الميزان التجاري التونسي الذي يشكو من عجز متفاقم ، غير أنه كان بالإمكان أن تكون مردودية هذا القطاع من العملة الصعبة أفضل بكثير بنسبة قد تصل إلى 80٪ لو تم تثمينه وإدماجه صناعيا بتونس من خلال التصنيع المحلي بتقنيات تونسيّة لمواد التجهيز وأدوات الاستغلال الضرورية لكافة مراحل الإنتاج انطلاقا من عمليات الجني مرورا بإنتاج المعاصر ومصانع التعليب والتخزين وغير ذلك من المتطلبات مثل مخابر البحث وتطوير المشاتل وتحصينها من الأمراض وكذلك استغلال مخلفات المعاصر للحفاظ على البيئة…
وتجدر الإشارة إلى أن صادرات تونس السنوية من زيت الزيتون المعلب لا تتجاوز في غالب الأحيان 10٪ من جملة الصابة السنوية علما أنها بلغت 12 ألف طن فقط سنة 2015. وهذا يعني أن القيمة المضافة لهذا المنتوج الحيوي ومواطن الشغل المرتبطة بالأنشطة المذكورة ووسائل إنتاجها تحّول هدرا، كما سبق بيانه ، إلى إيطاليا التي تستحوذ بهذه الطريقة على الحيز الأوفر من الأرباح بالعملة الصعبة من خلال إعادة تصديرها بعلامات تجارية خاصة بها.
وهكذا يتضح أن جل القطاعات الإنتاجية التونسية الصناعية والزراعية والتجارية والخدماتية وخاصة الأجزاء والحلقات الأكثر ربحيّة منها يتم إهدارها أو التفريط فيها إلى الخارج والحال أن تونس في أمس الحاجة للقيام بهذه الأنشطة محليا للرفع من مردوديتها وقيمتها المضافة و الحفاظ على مواقع العمل ذات الصلة بها للحد من البطالة وذلك في إطار التحول تدريجيا من اقتصاد شبه ريعي إلى اقتصاد إنتاجي .
والملاحظ أن الميزة الأساسية للاقتصاد التونسي هي طبيعته الريعيّة وتخلّفه الصناعي والتكنولوجي مما جعله يعتمد إلى حد كبير على الاستثمارات الخارجية وتقنيات الإنتاج المورد كليا من الدول الصناعية الكبرى لاستغلال الثروات الوطنية مقابل حصول تونس على نصيب ضئيل من الأرباح سواء تعلّق الأمر بالثروات الطبيعية أو النفطية أو الزراعية . وهذا الواقع هو من أهم أسباب فشل النمط الاقتصادي التونسي والعجز المزمن في الميزان التجاري وميزان المدفوعات الذي حوّل الاقتصاد التونسي أيضا إلى اقتصاد مديونية وتبعية مالية وتكنولوجية إلى الخارج لتغطية وارداته من وسائل الإنتاج وحتى المواد الاستهلاكية وكذلك سد العجز المتفاقم في المالية العمومية .
وهذا الواقع هو نتيجة حتميّة لتخلي تونس المبكر منذ مطلع السبعينات عن خيار بناء نسيج صناعي وطني متكامل ومندمج موزع على الجهات يهدف إلى تحقيق التوازن والتكامل بين المدن المركزية الساحلية وبقية الجهات الداخلية وهو الخيار الاستراتيجي الوارد في الآفاق العشرية للتنميّة لمرحلة الستينات وما تبعها من مخططات تنموية .
وقد تم استبدال هذا الخيار بسياسة الإنفتاج العشوائي واللامحدود على القروض و رؤوس الاموال الخارجية و كذلك الاعتماد المفرط على الاستثمارات الخارجية وما ترتّب عن ذلك من أزمة مديونية وأزمة اقتصادية خانقة أدت إلى خضوع تونس منتصف الثمانينات إلى البرامج والقروض المشروطة بتحكّم صندوق النقد الدولي والبنك العالمي في الخيارات الاقتصادية التونسية ومنها التحوّل القصري إلى منظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر اللامتكافئ مع الاتحاد الأوروبي من خلال اتفاق 1995 لتبادل السلع الصناعية الذي فتح المجال لاتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق .
و المعلوم ان اتفاق 1995 تسبب في القضاء على جانب هام من النسيج الصناعي الوطني و خسارة حوالي 300 الف موطن شغل و ذلك بسبب المنافسة غير الشريفة للسلع المهربة و السلع الصناعية الاوروبية وكذلك الصناعات الاوروبية ” المصدرة كليا” العاملة بتونس التي فتحت امامها الاسواق المحلية فضلا عن ما تحظى به من دعم مالي و حماية و امتيازات استثنائية .
النتائج الحتميّة لفشل النمط الاقتصاد التونسي
ورغم ثبوت فشل هذه التوجهات الاقتصادية المفروضة في قالب «إصلاحات» متفق عليها مع مجموعة السبعة والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي ، إلا أن كافة الحكومات المتتالية على رأس السلطة بعد الثورة تمسكت بنفس الخيارات مما زاد في تعميق الأزمة الاقتصادية وأزمة المديونية الخارجية التي تجاوزت كافة الخطوط الحمر وبلغت درجات غير مسبوقة من الخطورة قريبة من حالة الإفلاس غير المعلنة.
كما انهارت نسبة النمو إلى أدنى مستوياتها وهي تحاكي ما يسمّى بحالة الانكماش أي تعطّل القطاعات الانتاجية و شلل الدورة الاقتصادية و المالية و ما برافقها من انهيار لقيمة العملة الوطنية وتضخم الواردات وتفاقم العجز التجاري والمالي واستفحال البطالة وتفشي الفساد وهروب المستثمرين والأموال واللجوء العشوائي إلى التداين الخارجي فقط لتغطية نفقات التسيير والاستهلاك والإيفاء باستحقاقات المديونية الخارجية التي تبتلع نسبة متزايدة من الأموال المفترضة وفقا لأرقام الميزانية.
والملاحظ ان الحصيلة الرقمية لهذا الوضع كارثية بكافة المقاييس حيث تشير الأرقام الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء والمنتدى الاقتصادي العالمي دافوس أن معدل البطالة ارتفع إلى أكثر من 20٪ أي حوالي 650 ألف عاطل وذلك بسبب التراجع الجملي للاستثمارات المحلية والأجنبية بحوالي 30٪ . هذا فضلا عن مغادرة نحو 2600 مؤسسة أجنبية وتونسية نحو جهات استثمارية أخرى ومنها المغرب والجزائر .
كما تشير الأرقام إلى تفاقم نسبة الفقر والهشاشة الاجتماعية لأول مرّة منذ عقود إلى حوالي 30٪ مما أدّى إلى تآكل الطبقة الوسطى التي كانت تشكّل في مراحل سابقة العمود الفقري للتجربة التنموية والنمط المجتمعي التونسي .
وهذه هي الأسباب الحقيقية للأزمة الاجتماعية وموجة الاحتجاجات الحادة النابعة أساسا من الجهات والمناطق الداخلية المحرومة .لكن السياسات الحكومية المعلنة لمعالجة هذا الوضع لم تخرج عن دائرة التدابير الانفعالية الترقيعية والحال أن خطورة الوضع تستدعي مراجعات إستراتيجية جذرية للسياسات والتوجهات الاقتصادية والدبلوماسية ذات الصلة بها .
الخطوط العامة لإستراتيجية تنموية جقيقية لتونس
ولابد أن تشمل هذه المراجعة تدابير ذات صبغة وقائية عاجلة تتعلق خاصة بإعادة النظر في الاتفاقيات الدولية غير المتكافئة على غرار منطقة التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي ، وإيقاف نزيف المديونية الخارجية بهدف إعادة الحد الأدنى من التوازنات المالية والحيلولة دون الانهيار الكلي للاقتصاد الوطني .
ولتحقيق هذا الغرض يفترض أن تطلب تونس ، استنادا إلى البنود الاحترازية والوقائية الواردة في برنامج العمل الموقع مع الاتحاد الأوروبي ، تعليق المفاوضات حول منطقة التجارة الحرة الشاملة والمعمّقة والشروع في مباحثات تهدف إلى إيجاد إطار استراتيجي جديد أكثر إنصافا وتوازنا لتنظيم العلاقات السياسية و الاقتصادية مع الضفّة الشمالية للمتوسط. كما يتعين مراجعة العلاقات مع مجموعة السبعة للدول الصناعية الكبرى وخاصة في ما يتصل بما يسمّى بشراكة دوفيل وما ورد فيها من التزامات وتعهدات مالية لفائدة تونس لم يقع احترامها بما فيها الالتزام بإعادة أموال تونس المنهوبة والمهربة إلى الخارج.
وعلى الصعيد الثنائي يفترض أن تفتح تونس مفاوضات مع أهم شركائها الاقتصاديين والسياسيين وهم فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة باعتبارهم من أكبر الدائنين والأكثر استفادة من الأسواق التونسية وذلك بغرض التوصّل معهم إلى حلول استثنائية لتخفيف أعباء المديونية والبحث في البدائل المتوفّرة لمعالجتها بصفة جذرية . و يمكن ان تشمل المفاوضات مع هذه الدول تحويل المديونية الى مشاريع انتاجية تتمثل في مساعدة تونس على تطوير قدراتها التكنولوجية و الصناعية الذاتية حتى تصبح قادرة على تثمين و استغلال ثرواتها الوطنية محليا.
أما التدابير الضرورية على الأمدين المتوسط والبعيد فإنها تقتضي إقرار إستراتيجية تنموية جديدة مستوحاة من التجارب التنموية الناجحة للدول الصاعدة مما يقتضي التحول من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي قائم على إحياء خيار التصنيع وتحديث الفلاحة وتحقيق الأمن الغذائي ، والاكتفاء الذاتي التكنولوجي و استرداد استقلالية القرار الاقتصادي الوطني المفقودة منذ عقود باعتبارها من الركائز الأساسية للسياسات الاقتصادية الناجحة للبلدان الصناعية الجديدة التي نجحت في الاستفادة من التبادل الحر كدول منتجة من خلال الانخراط في تحقيق الاندماج الصناعي الضروري لتصنيع المواد والتجهيزات اللازمة لعملية الإنتاج واستغلال ثرواتها ذاتيا وتطوير قدراتها البحثية والعملية والتكنولوجية الذاتية على نحو مكّنها من التحكم في مقومات التنمية الاقتصادية الحقيقية .
وفي مقال لاحق سنتطرق بأكثر تفصيل إلى مضامين الإستراتيجية التنموية الحقيقية التي يمكن أن تتوخاها تونس وسبل تجسيدها على أرض الواقع وصولا إلى إنقاذ الاقتصاد التونسي وإخراجه من الدورة الجهنميّة المغلقة التي تردى فيها.
- دبلوماسي و سفير سابق
شارك رأيك