تونس : فتح ملفات الفساد إرادة محاسبة أم إرادة تشفي ؟

بصرف النظر عن مواقف كل الأطراف من موضوع الإيقافات و فتح التحقيق و ما يوصف بالانتقائية في فتح ملفات تحقيق ضد أشخاص بعينهم و التغاضي على العديد من الأشخاص الآخرين الذين فاحت رائحة فسادهم و تلاعبهم بالمال العام فالثابت أن هناك ملفات لم يكن يتوقع المتابعون أن يتم فتحها لا في القريب العاجل و لا الآجل و أن هناك حقائق مخفية قد بدت تطفو على السطح رغم إصرار محامى الدفاع على فراغ الملفات و نيّة السلطة في الزجّ بموكليهم لأغراض بعيدة كل البعد عن  نية المحاسبة العادلة و الحقيقية.  

أحمد الحباسي

ربما يمكن اليوم الحديث على أنه ليس هناك دخان بلا نار و أن القضاء قد بات يلعب بعضا قليلا من دوره الأساسي و الحيوي  في محاربة الفساد و محاكمة الفاسدين و هذا الدور كان مطروحا و مطلوبا منذ سقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن على لكن حركة النهضة التي صعدت للحكم في ظروف مشبوهة حولته إلى سيف مسلط بانتقائية شديدة على البعض من السياسيين و رجال الأعمال و ما يسمى بأزلام النظام السابق بغاية الابتزاز و التطويع لا غير.

لا أحد ينكر اليوم دور بعض المبلغين عن الفساد و دور بعض السياسيين القلائل و دور بعض البرامج الإعلامية في التبليغ و طرح ملفات الفساد أمام الرأي العام رغم ما تعرضوا له من ضغوط و تهديدات بالقتل و بالمقابل بقيت السلطة القضائية إلى فترة قصيرة محيّدة و مقصيّة بفعل فاعل عن فتح ملفات الفساد بل كان في الاعتقاد أن بعض رموز الفساد لن تطالهم العدالة و لن نراهم داخل أروقة المحاكم أو القطب القضائي المالي و لعل فتح هذه الملفات على قلتها و ما أثير حولها من هرج و مرج إعلامي قد تزامن مع آخر العهدة الأولى للرئيس قيس سعيد و الذي يتهمه الكثيرون بكونه قد تعمد الانتقائية الموجهة و الشديدة في فتح الملفات من باب الردع و التشفي من بعض من يمكن اعتبارهم من خصومه السياسيين أو الذين تشكل ثرواتهم خطرا على الاستقرار لو تم تصريفها في إشعال بعض مناطق التوتر الاجتماعية خاصة في فترة تعانى فيه الطبقات المعدمة من انسداد الأفق و الإحباط . لعله ليس من المنطقي أن يتم اختزال  جمع الفاسدين الذين تغوّلوا و نهبوا و أفسدوا و رحّلوا المليارات للخارج في هذا العدد القليل جدا جدا  من الأشخاص الموقوفين الذين يمثلون بالكاد واحدا في المائة من جبل الفاسدين.

الدور الغائب لقانون الصلح الجزائي

من الواضح أن قانون الصلح الجزائي لم يكن له دور فاعل في محاسبة الفاسدين و استرجاع الأموال المنهوبة كما أنه من الواضح أن إحالة بعض المتهمين بالفساد على المحاكم لن تكون له نتائج ايجابية ملموسة في علاقة باسترجاع الأموال المنهوبة و التي تم جمعها بطرق غير قانونية و بمساعدة بعض أجهزة الدولة أحيانا كما كان يحدث في عهد حكم حركة النهضة و ربيبها الفار للخارج المتجنس يوسف الشاهد.

لقد لاحظ المتابعون أن فتح بعض ملفات الفساد قد بقى مجرد حادثة رمزية انتخابية انتقائية بامتياز خاصة و أن الفساد قد شمل  مفاصل الدولة و النقابات و المنظمات و الهياكل و الجمعيات إضافة لبعض الأحزاب و المسؤولين السياسيين بل هناك تساؤلات تطرح حول جدية أرادة الدولة فى مكافحة الفساد و الحال أنها لم تسخر العدة و العتاد و القدرات القضائية اللازمة للتعاطي مع ملفات متشعبة تتطلب خبرات معينة و هو دليل على أن محاربة الفساد ستبقى مجرد شعار انتخابي غامض و بلا خارطة طريق .

لقد كان الأمل معقودا في فترة ما على الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لتقوم بدور فعّال و سريع و محكم  يضرب الفساد في مقتل لكن ما حفّ بإقالة أو عزل  رئيسها العميد شوقي الطبيب و ما وجه إليه من اتهامات خطيرة  قد زاد من تنامي الشبهات و الشائعات و جعل المتابعين يتساءلون في حيرة متى ستخترق العدالة مغارة على بابا و يتم  كشف جبل الفساد الذي أنهك الاقتصاد التونسي .

بارونات الفساد يعوثون في الأرض فسادا

 لعل الإجماع اليوم أن محاربة الفساد كما هي حاصلة ليست إلا عملا سياسيا انتقائيا يراد به ضرب بعض الأشخاص بعينهم ترى بعض الجهات أنها تمثل خطرا محتملا على الاستقرار و الثابت أن الملاحقات القضائية قد تأخرت كثيرا لانعدام الإرادة السياسية و ضعف الإمكانيات اللازمة لمعالجة الملفات و حين ينزع عن القاضي صفته كقاض مستقل ليتحول إلى مجرد موظف تابع لإرادة السلطة فالمؤكد أن هذا الفعل  لن تكون له ايجابيات و لن يخاطر موظف بأمنه و أمن عائلته من أجل إيقاف بارونات الفساد الذين باتوا يملكون من عناصر الترغيب و الترهيب الشيء الكثير.

لقد باتت الشعارات بمحاربة الفساد و استرجاع الأموال المنهوبة بلا صدى و هو ما يؤكد أن  الإرادة السياسية مشوشة بشكل واضح و إذا استمر الحال على ما هو عليه فانه لا أحد سيصدق أنه سيأتي يوم تفتح فيه كل الملفات للمحاسبة الفعلية و ليس للتشفي الانتقائي بل لنقل بمنتهى الصراحة أن شعار مكافحة الفساد قد بقى مجرد نوايا غيبية منسوبة للمجهول لا يصدقها أحد.

إن مكافحة الفساد تتطلب إرادة سياسية قضائية صلبة و الأيادي المرتعشة لا يمكن أن تنتصر في هذه المعركة الشرسة و الانتقائية لن تحقق لصاحبها إلا مكاسب رمزية لا غير.

كاتب و ناشط سياسي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.