الحرب الإسرائيلية الإيرانية: جوسسة ومواجهة عسكرية

تُعدّ الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران واحدةً من أكثر الحروب تعقيدًا في الشرق الأوسط، لما تتضمّنه من أبعاد عقائدية وسياسية وجيوستراتيجية. حرب يتعارض فيها الحاضر مع الماضي على الرغم من أنه انبثاق منه واستمرار له.

         العقيد محسن بن عيسى

ليس سرّا القول بأن العلاقات بين الدولتين كانت في الماضي متينة، خاصة في فترة حكم الشاه، فقد كانت إيران ثاني دولة إسلامية تعترف بدولة إسرائيل سنة 1950 بعد تركيا سنة 1949، إلا أنّ انتصار الثورة الإسلامية سنة 1979 شكّل نقطة تحول جذري في هذه العلاقة. لقد تبنّت القيادة الإيرانية الجديدة خطابًا معاديًا لإسرائيل، ورفعت شعار “إزالة الكيان الصهيوني” من الوجود، واستقبلت عرفات  كأول شخصية أجنبية وفي أول زيارة رسمية.  

تعاون نووي “لخدمة السلام”

تغيّر موقف إسرائيل لترى في إيران بعد تعاونها معها اقتصاديا منذ 1967 تهديدًا وجوديًا، خصوصًا بعد تطور البرنامج النووي الإيراني، ودعم طهران لحركات معادية لها في المنطقة. وتفاقمت التوترات بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني (JCPOA) سنة 2015، والذي اعتبرته إسرائيل تهديدًا مباشرًا لأمنها. تساندها في ذلك ولحماية مصالحها في المنطقة الولايات المتحدة وأوروبا. مع العلم وأنّ القضية النووية الإيرانية تعود إلى سنة 1957 تاريخ توقيع الشاه على اتفاقية تعاون نووي مع الولايات المتحدة ” لخدمة السلام”.

بلغ التوتر نتيجة محاولات إيران تغيير التوازن الاستراتيجي بالمنطقة حدّه وتطور ليأخذ شكل المواجهة العسكرية المباشرة منذ أسبوع. ليس جديدا ترجيح إسرائيل الخيار العسكري لضرب مواقع نووية في الشرق الأوسط على معنى تهديد أمنها.

لقد كان هذا الخيار من المسلمات لدى كل الحكومات المتعاقبة حيث كان الاعتداء الأول سنة 1981 في العراق والثاني في سوريا سنة 2007. ولكن واقع إيران اليوم بدى غير واقع الدول التي ذكرناها  منذ أكثر من أربعين سنة، فهي أكثر استعدادا للدفاع والمناورة والهجوم.  

نحن امام مواجهة يجري الاعتماد فيها على أساليب ” صراع الظل” وفي مقدمتها الجوسسة (التجسس)، والعمل الاستخباراتي، مما يجعلها نموذجًا معقدًا لصراعات القرن الحادي والعشرين.

الجوسسة كأداة استراتيجية

أصبحت الجوسسة أداة مركزية في الصراع الإسرائيلي الإيراني، ليس فقط لجمع المعلومات، بل لتنفيذ عمليات دقيقة تحقق اهدافًا استراتيجية. فمن الجانب الإسرائيلي يلعب جهاز الموساد دورا رئيسيا في اختراق العمق الإيراني، وتنفيذ الاغتيالات وسرقة معلومات حسّاسة. وتُعتبر في الجانب الإيراني أجهزة الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات أدوات رئيسية لبناء شبكات تجسّس، وشنّ هجمات إلكترونية ضد أهداف إسرائيلية.

تشتمل أساليب الجوسسة المعتمدة على:

  • الجوسسة البشرية (الاختراق الميداني وتجنيد العملاء)
  • الجوسسة السيبرانية (القرصنة والهجمات الإلكترونية)
  • الرصد التكنولوجي (الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة).

لقد باتت هذه الأدوات نقطة ارتكاز في التوازن الردعي بين الطرفين، ما جعل من الجوسسة ليست مجرد وسيلة جمع معلومات، بل أداة هجومية من الطراز الأول لزرع الشك داخل المجتمع، وضرب صورة الدولة الخصم أمام شعبها مثلما يحصل حاليا حين يتم الإعلان عن عمليات ناجحة أو سيطرة. لكن رغم هذه النجاحات تظل الجوسسة محدودة التأثير في تطويق النزاع فهي تدير التوتر لكنها لا تقدم حلولا جذرية لحرب  على خلفيات أيديولوجية واستراتيجية أعمق.

نماذج واقعية لتجليات الجوسسة

لم تكن الجوسسة بعيدة عن اغتيالات إسرائيل في إيران أخيرا والتي استهدفت رئيس الأركان وقائد الحرس الثوري وقائدان عسكريان وستة علماء نوويون وربما آخرون، وتعرّض بعض المنشآت النووية للهجوم. لقد نجحت العمليات الاستخباراتية، سواء كانت اغتيالات أو هجمات إلكترونية أو تسريبات في تشكيل جزء كبير من هذه الحرب، وضبط إيقاعها.

من النماذج الواقعية لتجليات الجوسسة اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة سنة 2020 في عملية معقدة متطورة، يُعتقد أن الموساد الإسرائيلي ورائها. هذه العملية كشفت مدى عمق الاختراق الاستخباراتي داخل إيران، وقدرته على تنفيذ عمليات نوعية في قلب العاصمة دون ردود فعل مباشرة.

كذلك سرقة الأرشيف النووي الإيراني سنة 2018. في واحدة من أبرز عمليات الموساد حيث تمكنت عناصره من سرقة وثائق سرية من أرشيف نووي في طهران ونقلها إلى إسرائيل، حيث استُخدمت سياسيا وأمنيا لتقويض الاتفاق النووي الإيراني أمام المجتمع الدولي.

يُضاف إلى ذلك  الهجوم الإلكتروني عبر فيروس “ستوكسنت” في 2010، هذا الفيروس الذي يُعتقد أنه نتيجة تعاون بين إسرائيل والولايات المتحدة، والذي دمّر مئات أجهزة الطرد المركزي دون ضجيج عسكري، وفتح عهدا جديدا في الحرب السيبرانية.

هذا وأظهرت العمليات الإسرائيلية في سوريا والعراق والتي استهدافها مستودعات سلاح أو قيادات عسكرية توفر معلومات استخباراتية دقيقة يتم الحصول عليها من خلال الطائرات المسيرة، او العملاء المحليين، أو وسائل التنصت المتقدمة.

إن الحرب الجارية حرب أسلحة متطورة، ولكنها أيضا صراع جواسيس لا يزال صاعدا، وقد يكون مفتاحا لفهم شكل الحروب المقبلة، حيث المعلومة تسبق القذيفة والاختراق الإلكتروني يعادل الضربة الجوية.

* ضابط متقاعد من الحرس الوطني.

                                                  

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.