لم يعد مشروع “الشرق الأوسط الجديد” شعارا مرميّا في أدراج البنتاغون، بل تحوّل إلى خطة عسكرية اقتصادية سياسية ثقافية، تُنفَّذ على مراحل، بأدوات متداخلة، من الحروب المباشرة، إلى العقوبات الاقتصادية، مرورا بالتحالفات الأمنية الإقليمية، وصولا إلى تسخير الإعلام والدين والعرق كأدوات لإعادة هيكلة وعي الشعوب.
رياض الشرايطي

وإذا كانت أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا أولى المختبرات، فإن إيران هي الآن العقدة الكبرى، التي يسعى المشروع الإمبريالي الصهيوني لتفكيكها بالقوة، لفتح الباب أمام موجة ثانية من الانهيارات، لا تستثني أحدا.
إيران، الهدف الأول في معركة “تطهير المشرق”
بالنسبة للصهيونية، إيران تمثل خطرا مزدوجا: خطرا نوويّا، وخطرا أيديولوجيا. فهي دولة لم تدخل تحت المظلّة الأمريكية، ولم تقبل القواعد الصهيونية للعبة، بل دعمت قوى المقاومة في فلسطين ولبنان، ونسّقت مع سوريا، وتحالفت مع روسيا والصين، ما جعلها “شوكة حادة” في خاصرة الهيمنة الغربية.
إن ضرب إيران ليس فقط تصفية لمصدر الدعم للمقاومة، بل أيضا رسالة إلى الجميع: “كل من يحاول أن يكون مستقلا في هذا الإقليم، سينتهي كالعراق أو أسوأ”.
والأسوأ، أن الكيان الصهيوني يروّج أن تدمير إيران هو ضرورة وجودية، مستغلا عقدة “الهولوكوست” و”التهديد بالفناء” لحشد التأييد الغربي لضربها، في حين أن الحقيقة هي أن إيران تشكّل سدا جغرافيا واستراتيجيا يحول دون تمدّد إسرائيل وأمريكا في العمق الآسيوي.
بعد طهران… أنقرة والقاهرة في المهداف
تدمير إيران لا يُفهم فقط في سياق الصراع الشيعي-السني أو الأمن الخليجي، بل في إطار إعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة. بعد طهران، الدور على أنقرة والقاهرة.
تركيا، رغم عضويتها في الناتو، أصبحت تُقلق واشنطن وتل أبيب. نزعتها التوسعية، دورها في أذربيجان، علاقتها بروسيا، وتطلعاتها الاقتصادية، تجعلها هدفا قادما للتفكيك، إما من خلال الفوضى السياسية، أو عبر صراعات داخلية تُشعلها القوى الكبرى.
مصر، من جهة أخرى، ليست عدوا لكنها يجب أن تبقى دولة عاجزة. لا سلاح حقيقي، لا استقلال اقتصادي، لا ديمقراطية. المطلوب منها أن تظل حارسا لقناة السويس ومخزنا للعمالة الرخيصة ومستهلكا قهريا لما تطرحه الأسواق الغربية. أي ميل مصري لاستقلال القرار أو دعم المقاومة الفلسطينية، يتمّ كبحه بتجويع الشعب، أو بسيناريوهات فوضى أمنية.
تفتيت ما تبقّى: سوريا، لبنان، الأردن.
هذه الدول الثلاث تعيش حالة “الاحتضار السياسي” منذ سنوات. سوريا دمّرت. لبنان يذوي تحت سكين الانهيار الاقتصادي، وتُستخدم طائفيته التاريخية كصاعق دائم للانفجار. والأردن مرشّح ليكون الوطن البديل للفلسطينيين، وفق ما تريده الصهيونية، مما يجعله ضمن قائمة الدول المطلوب إضعافها، حتى تقبل بهذا السيناريو. والهدف؟ أن تتحول هذه الكيانات إلى تابعة سياسيا، مفككة اجتماعيا، بلا سيادة ولا اقتصاد منتج، تصدر اليد العاملة وتستورد كل شيء، وتقبل بإسرائيل كمرجعية سياسية وأمنية واقتصادية.
الطاقة والممرات المائية، جوهرة التاج في الإمبريالية الجديدة
ما تسعى له أمريكا و الكيان ليس مجرد الهيمنة العسكرية، بل التحكم الشامل في موارد الطاقة والممرات المائية: مضيق هرمز، باب المندب، قناة السويس، وشرق المتوسط كلها مفاتيح لنقل الغاز والنفط.
تواجد أمريكي صهيوني في هذه النقاط يساوي خنق الصين وروسيا اقتصاديا.
الطريق الحريري الصيني يتعطل، وخطوط أنابيب الغاز الروسي تُفجر، لتظل أوروبا رهينة الغاز الأمريكي المُسعّر سياسيا.
كما كتب ناعوم تشومسكي: “الهيمنة على موارد الطاقة تعني الهيمنة على القرار العالمي. النفط هو السلاح الجديد، والمضائق البحرية هي مواقع القنص الاستراتيجية.”
تصفية البريكس ، إنهاء الأمل في تعدد الأقطاب
ضرب إيران ثم تركيا ومصر يعني كسر العمود الفقري لأي مشروع مستقل في الجنوب العالمي. تجمع البريكس (BRICS) سيجد نفسه مطوقا بجدار من النار، خاصة وأن: روسيا تفقد أحد أهم حلفائها في المنطقة. والصين تُقطع عنها خطوط الإمداد والمسارات اللوجستية. وباكستان تُحاصر جغرافيا و سياسيا ضمن تحالفات هندية أميركية. وجنوب أفريقيا تجر للداخل الأفريقي عبر صراعات إثنية مدعومة استخباراتيا.
شمال إفريقيا في مرمى الهيمنة، من الانبطاح الاقتصادي إلى التلاشي الجيوسياسي
في خريطة التفكيك الصهيوني-الأمريكي، لا تمثّل شمال إفريقيا منطقة هامشية، بل امتدادا استراتيجيا لمسرح الهيمنة، وجدارا خلفيا يجب تطويعه لحماية مركز السيطرة في المشرق. ولهذا، تُعامل دول شمال إفريقيا ليس ككيانات ذات سيادة، بل كـ”حديقة خلفية” يجب تنظيفها سياسيا، وتعليبها اقتصاديا، وضبطها أمنيا.
▪︎. الجزائر – شوكة في الحلق:
الجزائر دولة ذات تقاليد سيادية، وبنية عسكرية قوية، وموقف سياسي ممانع نسبيًا. ولهذا: تُستهدف بمحاولات تطويق عبر تحريك النزاعات مع المغرب، وتغذية ملفات الطائفية والهوية، خاصة في الجنوب. وتحاصر دبلوماسيا لتمنع عنها صفقات السلاح السيادي أو النفوذ الإفريقي. وتستهدف اقتصاديا عبر محاولات خصخصة قطاع الطاقة وربطها بالأسواق الأوروبية، مع الضغط من أجل التخلي عن مشروع بناء اقتصاد مستقل.
قال المفكر الجزائري مهدي مبروك: “الجزائر تُعامل كمصدر غاز أكثر منها كدولة ذات سيادة.”
▪︎. المغرب ، رأس الجسر الصهيوني:
المغرب اختار التموضع داخل الحلف الأطلسي والصهيوني، وفتح أراضيه للقواعد والتطبيع والمناورات. لكنه لا يُمنَح السيادة، بل يُستخدم كـ”وسيط وظيفي” في مراقبة الساحل الأطلسي ومضيق جبل طارق والضغط على الجزائر وتوتير المغرب العربي و لعب دور الوكيل الاستخباراتي في غرب إفريقيا. إنه نموذج “الدولة العميلة”، التي تُمنح أدوات الشرطي الإقليمي، مقابل التخلي الكامل عن القضية الفلسطينية والسيادة الوطنية.
▪︎. تونس – المختبر الاجتماعي للهيمنة:
تونس ليست مستهدفة عسكريا، بل كمختبر لسياسات الإفلاس والتدجين. هنا، يتم تمرير خطط تفكيك الخدمات العمومية عبر الخصخصة و تفكيك التعليم العمومي والصحة و خنق الاقتصاد المحلي لصالح منظومة الاستيراد والديون و فرض مسارات سياسية تُقصي كل مشروع وطني أو مقاوم. كما كتب سمير أمين: “الهيمنة لا تحتاج دبابة، بل سلسلة قروض ومذكرات تفاهم ومراكز دراسات.”
▪︎. ليبيا ، الدولة المحذوفة من الجغرافيا:
بعد أن دمّرها الناتو، تحوّلت ليبيا إلى مزرعة مفتوحة للمرتزقة والمخابرات. النفط يُنهب، السلاح يُمرر، والحدود مفتوحة أمام كل سيناريو للفوضى. لكن الأخطر أن ليبيا تُستخدم كمنصة لضرب الاستقرار في تونس والجزائر وكمنطقة خالية من السيادة يمكن للكيان وأمريكا استعمالها وقت الحاجة في أي صراع.
ما الذي تريده الهيمنة من شمال إفريقيا؟
– تطويق الساحل الجنوبي للمتوسط كي لا يصبح بوابة للصين نحو أوروبا.
– منع تشكّل محور مغاربي سيادي قد يتناغم مع الجزائر أو تونس أو دول الساحل.
– السيطرة على الطاقة (الغاز الليبي والجزائري)، والموقع الجغرافي، وخنق أي منفذ للروس أو الصينيين.
– ضرب الوعي الشعبي وتدجين النقابات والجامعات والحركات الاجتماعية، كي لا تنتج وعيا مقاوما.
من التحرير الوطني إلى تحرر الوعي
شعوب شمال إفريقيا لا تزال تملك ذاكرة مقاومة: من ثورة عبد الكريم الخطابي في المغرب، إلى ثورة نوفمبر في الجزائر، من نضالات الحركة النقابية التونسية، إلى حرب الشعب الليبي ضد الغزو الأطلسي. لكن هذه الذاكرة مهددة، تُمحى إعلاميا وتُستبدل بثقافة الاستهلاك واللامبالاة.
المعركة اليوم هي على الوعي، لا فقط على الجغرافيا. فمن يفهم أن مشروع الكيان الصهيوني ليس احتلال فلسطين فقط، بل احتلال كل قرار عربي وأفريقي، يبدأ بالمقاومة من موقعه. كما قال فرانتز فانون: “كل جيل، يكتشف مهمته، إما أن يخونها، أو يحققها.”
وبذلك، يتمّ القضاء على أي إمكانية لولادة عالم متعدد الأقطاب. وتبقى أمريكا، ومعها الكيان، سيدة القرار.
في هذا السياق المرعب، لا يمكن للشعوب أن تظل في موقع المتفرج. والرهان على الدولة الوطنية وحدها ساذج، لأنها باتت مرتهنة. المطلوب هو تحالف قوى المقاومة، على اختلاف أيديولوجياتها، في مشروع تحرري شامل. وتحرّك شعبي عربي وإسلامي وأممي لفهم جوهر ما يجري، والتخلي عن الاصطفافات الطائفية والمذهبية. وفضح الصهيونية لا فقط ككيان محتل، بل كأداة رأسمالية استعمارية معولمة. كما قال غسان كنفاني: “الصراع مع إسرائيل ليس صراع حدود، بل صراع وجود. هي مشروع لا يريد لنا أن نكون.”
إن ما نشهده اليوم ليس مجرد اشتباك عسكري بين دول، ولا خلافات عقائدية أو صراعات طائفية، بل هو إعادة هندسة شاملة لخريطة الوطن العربي والإسلامي، تقوم بها آلة الهيمنة الغربية بقيادة أمريكا، وبمباركة الكيان الصهيوني، وبتواطؤ أنظمة وظيفية ترى في شعوبها عدوا، وفي الاستعمار خلاصا.
من إيران إلى اليمن، من سوريا إلى مصر، من الجزائر إلى تونس، من لبنان إلى السودان، ومن ليبيا إلى فلسطين، هناك مشروع متكامل يعمل على تفتيت الإرادة، تمزيق الخرائط، ومحو الذاكرة الجمعية لشعوب قاومت قرونا، وتطمح لأن تكون سيّدة نفسها لا ذيلا لإمبراطورية عابرة للقارات.
ليس الكيان الصهيوني سوى رأس الحربة في هذا المشروع. و هو لا يكتفي باغتصاب فلسطين، بل يريد اغتصاب الدور التاريخي للمنطقة: في إنتاج المعنى، في احتضان القيم، في المبادرة الحضارية، وفي قيادة الجنوب العالمي.
إن المعركة القادمة ليست على حدود، بل على الحق في المستقبل. الحق في أن نكون لا أن نُدار. الحق في المقاومة لا في التطبيع. الحق في الحلم لا في التصفيق للطاغية. الحق في الثروة لا في الفتات. الحق في السيادة لا في التبعية.
من لم يفهم بعد أن القضية الفلسطينية لم تكن يوما فقط قضية وطن محتل، بل قضية كوكب يُعاد تشكيله بالعنف والنهب والدمار، فلن يفهم لماذا تدمَّر العراق، ولماذا يُخنق اليمن، ولماذا تضرب 3إيران، ولماذا تُسحق تونس بالديون. وكما قال جيفارا: “حيثما يوجد ظلم، فثمّة معركة، حتى لو كانت على بعد آلاف الأميال.”
المطلوب اليوم ليس فقط وعيا، بل انحيازا جذريا، لا وسط فيه، إلى معسكر الشعوب لا معسكر الشركات. إلى مشروع التحرر لا إلى صفقات الغاز. إلى فلسطين لا إلى الكيان الصهيوني. إلى الحياة… لا إلى الخضوع.
شاعر و محلل سياسي.
شارك رأيك