إسرائيل دولة يهودية مرجعيتها توراتية و أيدولوجيتها صهيونية اسستها الأمم المتحدة بناء على قرار التقسيم الصادر سنة 1947، لكنها توسعت منذ ذلك الحين لتضم الجزء المخصص للفلسطينيين و أراضي عربية أخرى من لبنان و سوريا و الأردن. و تكاد تكون هذه الدولة فريدة من نوعها لأنها الوحيدة التي تعتقد أنها هبة ألله، فهو الذي وعدها بتلك الأرض و هو الذي جعل من اليهود شعب ألله المختار.
سعيد بحيرة

و رغم هذه الخزعبلات فإن الغرب المستنير و الديمقراطي يعتبرها دولة حديثة و ديمقراطية، و يكرر على مسامعنا يوميا أن لها حق الدفاع عن النفس و الحال أنها هي التي تعتدي على الآخرين و تشن عليهم الحروب حتى وإن كانوا على بعد آلاف الكيلومترات.
ثم إن الغرب و خاصة الأوروبي يشعر بعقدة ذنب تجاه هذه الدولة اليهودية لأنه نكل باليهود و شردهم و قتلهم سوا٠ خلال محارق القرن التاسع عشر او السياسة النازية في القرن العشرين. و لعله يكفر عن ذنوبه بدعم هذا الكيان و تمكينه من التكنولوجيا المتطورة و حتى السلاح النووي، و لا يتوانى في حمايته عسكريا و ديبلوماسيا و اقتصاديا.
ينقلب الضحايا إلى جلادين لا رحمة تسكن قلوبهم
و إذ يذكر الجميع الويلات التي عاناها اليهود على أيدى الأوروبيين فإن الجميع أيضا لا يتفقون على فرض توطين يهود العالم في فلسطين حيث يعيش شعب له أصوله و تاريخه و حقوقه. ثم إن هؤلاء المهاجرين الذين أصبحوا مستوطنين مسلحين و هم يزعمون أنهم أبناء و أحفاد ضحايا النازية يرتكبون جرائم تشبه الممارسات الهتلرية، و هو أمر غريب إذ ينقلب الضحايا إلى جلادين لا رحمة تسكن قلوبهم .
و يكفي أن نذكر بمحتشد أوشفيتز سيئ الذكر الذي كان مركزا للموت و معسكرا للتصفية الجسدية بواسطة العمل الشاق. و هو يقع في بولونيا و لاقى فيه أكثر من مليون يهودى مصرعه بواسطة أفران الغاز أو المعاملة القاسية أو الأمراض و التجويع و حتى التجارب الطبية الإجرامية. و باعتبار هذه الأعمال المشينة في حق الإنسانية، و حتى لا تتكرر تلك الممارسات قامت منظمة اليونسكو بتسجيل أوشفيتز على لائحة التراث العالمي.
فهل اعتبرت الشعوب من مآسي اليهود؟ و هل استخلص اليهود الدرس من تلك المحنة؟
أظن أن الأمر يستدعي بعض المقارنة مع ما يجري في غزة و الضفة الغربية على يد الدولة التي تدعي أنها وريثة ضحايا النازية. و قد نشرت جريدة “لوموند” سلسلة من التحقيقات تتضمن أرقاما مفزعة ذلك أن إسرائيل قتلت طيلة إحدى و عشرين شهرا 55202 فلسطينيا، منهم 17125 طفلا قاصرا، و 9126 إمرأة، و 4962 رجلا عمره أكثر من خمسين عاما، و هناك 12000 مفقودا و آلاف المساجين الذين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب و الإهانة. و تتفاخر إسرائيل بأنها قتلت عشرين ألف شخص من المنتمين إلى حماس… و ما خفي كان أعظم.
هل تستقيم مقارنة غزة بأوشفيتز؟
أما عن مقومات الحياة فإنها تكاد تكون منعدمة ذلك أنه تم تجريف كل الأراضي الفلاحية فأصبحت عقيمة و أختفى اللون الأخضر تماما من أراضي غزة، و تم تدمير الميناء و تهشيم قوارب الصيادين و إطلاق النار على من يحاول ممارسة الصيد البحري. و في المدن قصفت كل المساكن و تم تجريف الطرقات و تكسير القنوات و تمركز الجيش في البيوت و المباني القائمة. و معلوم أنه لا يوجد ماء و لا كهرباء و لا دواء و لا غذاء… و في الضفة الغربية أصبح المستوطنون المسلحين أسياد الموقف يحميهم الجيش الأكثر أخلاقيات في العالم!!!
فهل تستقيم المقارنة مع أوشفيتز؟ و ما هو الفرق بين الحالتين؟ و هل ستسجل اليونسكو ما جرى و يجري في غزة على لائحة التراث الإنساني حتى لا تتكرر المأساة ؟ و كيف ستكون الحالة النفسية لمليوني فلسطيني عاشوا هذه الحرب القذرة؟ و ماذا سيبقى في ذاكرة الناجين؟ و كيف سيكون التعايش بينهم وبين القتلة ؟ و اي شعور ينتاب الإسرائيليين و هم يشاهدون عمليات القتل و التجويع و الدهس و حتى تسريب المخدرات إلى أهالي غزة حتى يسقطوا في الضياع و الانهيار؟
إن التاريخ يحفظ ذكرى مآسي فادحة عاشتها الإنسانية لكنه يثبت أيضا أن لكل ظلم نهاية و لكل جريمة عقاب، يمكن أن يتأخر و لكن لا مفر منه. أما المجرمين فتلاحقهم اللعنة في الأرض و في السماء. و أما الشركاء في الإجرام فلهم الخزي والعار.
باحث جامعي ومحلل سياسي.
شارك رأيك