العودة السياسية التي لم تقع في تونس     

بعد العطلة الصيفية التي تنزل فيها الحركة السياسية إلى أدنى نسقها، و بعد العطلة القضائية التي تقتصر فيها المحاكم على النظر في القضايا المستعجلة، و بعد العطلة البرلمانية التي تتوقف أثناءها الجلسات العامة، من المفروض أن تنطلق العودة السياسية سواء بالنسبة للمؤسسات او للهيئات أو للمنظمات أو للأحزاب و تصحبها عادة تحركات تؤشر على حيوية الحياة العامة في البلاد. و من المفروض أن تكون العطلة فرصة لاسترجاع الأنفاس و تقييم الأوضاع لاستنباط طرق عمل و تفاعلات مبتكرة. فأين نحن من هذا التصور و التقليد الذي عرفناه في سنوات خلت ؟

سعيد بحيرة *

الظاهر أن الفاعلين السياسيين الرسميين يخضعون لمسايرة قيادة السلطة التنفيذية و لا يمكنهم التخلف عن نسقها أو استباقه باعتبار المركزة القوية لمختلف دواليب الدولة وباعتبار مخاطر الوقوع في مطبات التخاذل أو المزايدة.

و هكذا نسجل شيئا من الرتابة البعيدة عن مفهوم العودة و ربما سعيا مقصودا لكسر الأجندات القديمة حتى أن الاحتفال بيوم العلم الوطني و الجهوي تم بعد دخول شهر سبتمبر فتماهى مع الرجوع لمقاعد الدراسة و تسلم المتفوقون في امتحانات آخر السنة المدرسية الفارطة جوائزهم بعد أن كادوا ينسونها!

أما المعارضات بأنواعها فإنها لم تغادر ترهلها و لم نسمع عن أيام دراسات او جامعات صيفية او ندوات تقييمية، و لم نسجل صدور دراسات تحليلية او مؤلفات تقدم البدائل و تقترح برامج لتجاوز حالة الانسداد التي ما فتئت تنتقدها و ترفضها.

عميد محامين جديد و بعد ؟

كما أن قيادات المعارضات لم تدلي بأحاديث و لم نراها في لقاءات إعلامية تلقي الضوء على الوضع و تعرض حلولا له. و لعل الحدث اليتيم الذي يمكن اعتباره تعبيرة عن عودة سياسية محتملة يتمثل في انتخاب عميد جديد للمحامين ذلك أنه يعتبر موقعا مؤثرا في الحياة العامة و السياسية كما تعودنا سابقا. و قد خاض المحامون حملة انتخابية نشيطة لضمان اختيار عميد جديد يقطع مع توجه العميد السابق الذي كان قريبا من رئيس الدولة و خياراته. فهل التزم العميد الجديد بتغيير الاتجاه و الاقتراب من المعارضات؟ و لا يمكن الجزم بجواب صريح و قاطع عن هذا السؤال قبل استكمال انتخاب كل هيئة العمادة و كذلك الهيئات الجهوية. أما الأستاذ بوبكر بالثابت العميد الجديد فهو قادم من أفق مشترك مع رئيس الدولة باعتبار مرجعيتهما العروبية و حتى العصمتية، و هو ما يدعو إلى التريث و التأني حتى يتبين الخيط الأبيض من الخط الأسود. و مهما كانت الاختلافات فربما لا تزال شعرة معاوية سليمة. و بعد كل ذلك فإن دور العمادة مهني بالأساس و يمكنه الدفاع بأكثر حزم عن المهنة و المنتسبين إليها و استعادة قوة تأثيرها لكنه سيصطدم لا محالة بالنظرة الجديدة للسلطة بالنسبة للهيىئات و المنظمات و الجمعيات،  و لذلك فإن نجاح المحامين في انتخاب عميد مستقل و مناصر للحقوق الأساسية و متضامن مع زملائه لا يعد اعلانا لعودة سياسية حقيقية. و لننتظر ثم نرى.

النقابات في أزمة

و يتشابه هذا الوضع نسبيا مع ما يجري في الاتحاد العام التونسي للشغل حيث تتعالى الأصوات من جديد للمطالبة بعقد المؤتمر الاستثنائي للمنظمة في أقرب الآجال سعيا للخروج من الأزمة في حين يغيب الوفاق و يستمر الانقسام. و قد حاولت قيادة الاتحاد خلال الصائفة أن تسترجع زمام المبادرة عبر التجمّع الذي انتظم في اوت الماضي ردا على استهداف مقر المركزية النقابية الذي قد تكون وراءه السلطة ووفقت إلى حد ما في ذلك، لكن تبين أيضا أن ذلك التحرك جمع أطيافا متنوعة بما فيها المعارضة النقابية. و من جهة أخرى حاولت نقابات التعليم الثانوي تحريك السواكن لكن عودة التلاميذ غطت على الحدث إضافة إلى استياء الرأي العام من اختيار تاريخ التحرك.

و بالنسبة للأحـزاب المعني الأول بالعودة السياسية فإنها تراوح مكانها حركة و تنظيرا ، ولا بد لها من هبة استثنائية لتأخذ مكانها في المشهد. فهل تحصل الهبة؟

استمرار الوضع كما هو

هذا أمر لا يبدو ممكنا في المنظور القريب نظرا لغياب المبادرات الجادة التي تجيب عن طلب اجتماعي حقيقي و تعكس طبيعة الأزمة القائمة علاوة على الانقسامات المزمنة المبنية على خلافات تجاوزها التاريخ و أصبحت في عداد الذكريات لدى جيل أو جيلين من النشطاء.

أين هي إذا العودة السياسية كما تعودنا و كما نشاهد هذه الأيام في بلدان لها عراقة في الديمقراطية و إدارة التعدد و الإختلاف؟ و أين هو النضج الذي يخفف الاحتقان بين كل الأطراف و يعطي الأولوية للمصلحة الوطنية ؟ و أين هي قوى الوسط صاحبة الدور الأول في تجسير المسافة بين الفرقاء؟

 لا شيء من كل هذا مما ينبئ باستمرار الوضع كما هو اللهم إذا مكر التاريخ فانتفض في هذا الاتجاه و الاتجاه الآخر.

* باحث جامعي و محلل سياسي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.