منذ بداية السنة الدراسية يسقط تلاميذ شط السلام بقابس واحدا تلو الآخر مرضى. الغازات السامة تتسرب من أحشاء المجمع الكيميائي والمدينة تهتز بين صفارات الإسعاف وصراخ الأمهات، لكن الصمت الرسمي أشد سُمّاً من الغاز.
منال العلبوشي *

إن ما يحدث في قابس ليس صدفة بيئية، إنه القدر المتكرر لمدينةٍ تنفّذ فيها الدولة تجربة الموت البطيء منذ نصف قرن.
وأولاد شطّ السلام ليسوا أرقاماً في نشرة الأخبار، إنهم أنبياء الصدق في وطنٍ اختار الكذب على الهواء.
حين يختنق طفل تختنق الذاكرة معه، يسقط جسده الصغير لكن صوته يصعد، يقول ما لا يقوله أحد: “الهواء الذي نتنفسه كما نحن مملوك، والسماء التي فوقنا ليست لنا”.
إن سقوطهم درس في الصدق، فالحياة في قابس تُقاس بعدد الزفرات الناجية من الغازات.
هذا الوحش ليس مصنعا فقط، إنه أب من حديد يطعم أبناءه سُماً باسم العمل، يمنحهم الخبز ويأخذ منهم الهواء، يقول لهم اصمتوا فالتنمية تحتاج تضحيات، لكن التنمية التي تقتل ببطء أبناءها ليست تنمية، بل نظام موتٍ مؤسس باسم الدولة تختلط فيه الأرقام بالدم والربح بالرماد. لكن حين يضيق صدر قابس تضيق معه تونس بأكملها.
المستشفيات والعيادات أصبحت غرف علاجٍ لأمّةٍ تعاني من فقدان التنفس، لكن الأطباء لا يصفون دواءً للضمير، ولن يجدوا علاجاً للاختناق الأخلاقي.

أطفال يبحثون عن شهيقٍ في وطنٍ بلا نوافذ
الأزمة ليست أزمة هواء، بل أزمة معنى. لقد نسينا أن التنفس فعل، وأن الحرية أوكسجين الروح.
من قلب هذا الغبار خرج صوته: ياسر جرادي، ابن قابس الذي فقد أباه وأمه وثلاثة من أعمامه، ضحايا للهواء نفسه الذي كان يغني له.
كان يكرر دائما: “أنا لاجئ بيئي، أغني كي أتنفس”.
كأن الغناء جهاز استنشاقٍ روحي، حمل غيتاره كمن يحمل قنينة هواء، وسافر بدراجته من مدينة إلى أخرى ينثر الموسيقى كما تُنثر البذور في أرضٍ عطشى.
رحل ياسر… لكن صوته بقي عالقاً في الريح، يذكرنا أن للهواء ذاكرة أيضاً.
وما أقسى أن يحمل المكان اسم السلام وهو يعيش نوعا من الحرب البيئية !
شطّ السلام اليوم مرآة للخذلان : بحر مسموم، سماء مثقوبة، وأطفال يبحثون عن شهيقٍ في وطنٍ بلا نوافذ.
كان المكان جنةً من ملحٍ ونور، فحوّله الفوسفوجيبس إلى مقبرةٍ بلا شواهد، كأن الجغرافيا نفسها في هذا العالم دخلت مرحلة الاحتضار.
قبل أشهر كتبت عن سراء ورتان في الشمال الغربي وقلت احذروا أن يتكرر الخطأ، فمن الشمال إلى الجنوب يتبدل اسم المشتري لكن يبقى النموذج نفسه : اقتصاد يزرع الموت ويصادر الكلمة.

اعترفوا أن الغاز يقتل وأن الإنسان أهم من الأرباح
قابس ليست حالةً استثنائية، بل المرآة التي تعكس فساد المنوال الاقتصادي و الاجتماعي بأكمله. الدواء يبدأ بالصدق، سَمّوا الأشياء بأسمائها، اعترفوا أن الغاز يقتل وأن الإنسان أهم من الأرباح، انشروا نتائج التلوث علناً، عالجوا البحر كما تُعالج الذاكرة، ازرعوا حدائق بدل المصانع، واكتبوا على بوابة المدينة : “التنمية التي تقتل الأطفال ببطء ليست تقدّماً”.
من أراد أن يفهم تونس فليستمع إلى سعال أطفالها في شطّ السلام، فحين يختنق الجنوب تختنق البلاد بأكملها، وحين نتعلّم الإصغاء إلى صوت الريح ربما نسمع هناك صوت الحقيقة تعود من جديد.
ولو أن تونس جسد، لكانت قابس أنفاسها المتقطّعة التي تغني وهي تختنق، وتمنح الحياة لبلادٍ نسيت كيف تتنفس بحرية.
* أخصائية في العلاج النفسي.
شارك رأيك