مبادرات الإنقاذ السياسي في تونس : شعارات بلا ذاكرة

خطاب الإنقاذ السياسي كما نراه اليوم في تونس كسيح؛ يحاول احتواء واقع متسارع بأدوات تأويلية متقادمة، فيتحول إلى عائق للفهم لا إلى وسيلة للفعل. حيث تبدو المعارضة والسلطة وجهين لخيال سياسي متكلس، يهاب المستقبل ويعيد إنتاج الماضي على هيئة مشروع. و العتب لا يوجَّه هنا إلى السلطة وحدها، بل أيضا إلى من صدّق أن بإمكاننا بناء ديمقراطية بأدوات فكرية لا تعي زمنها، و شخصيات لا تملك شجاعة النقد الذاتي.

هشام السنوسي *

شكّل تحول 25 جويلية 2021 منعطفا حاسما في مسار الثورة التونسية. فقد دشن مرحلة أزمة سياسية جديدة،أزمة عميقة عطلت المرفق العام وأدخلت البلاد في دوامة من الاضطراب المؤسسي والاجتماعي. وكشفت التطورات اللاحقة محدودية خطاب السلطة في تقديم حلول واقعية للقضايا الاجتماعية والاقتصادية، وأكدت أن الديمقراطية ليست من أولويات الرئيس قيس سعيد، ولا ضمن تصوره لمستقبل الدولة.

في المقابل، حاولت المعارضة إعادة تنظيم صفوفها عبر مبادرات تقدم على أنها ذات بعد إصلاحي. لكنها فشلت في بلورة خطاب جديد يقطع سلوكيا مع الماضي، فظلت أسيرة مقولات استرجاعية تعيد إنتاج المنظومة القديمة دون مراجعة نقدية لأسباب فشل الانتقال الديمقراطي. بل يمكن القول إن جزءا من المعارضة يرفض حتى المقاربة النقدية الجادة لما قبل الثورة، وكأن التاريخ بدأ عام 2011.

هكذا يُحجب فهم الجذور العميقة للأزمة، وتُستبدل المراجعة الذاتية بخوف من المساءلة، خشية أن تسقط الأقنعة وتنكشف المسؤوليات في الإخفاق الجماعي.

1. في بنية خطاب مبادرات «الإصلاح والإنقاذ»

ترتكز أغلب مبادرات ما بعد 25 جويلية على «كبسولات» جاهزة مثل الاستقلال الوطني ورفض الارتهان للخارج و استكمال الإنتقال الديمقراطي… وهي شعارات تُستثمر ضمن ما يمكن تسميته بـ«الخطاب الإنقاذي»: خطاب يقدم نفسه بديلا أخلاقيا للنظام القائم، من دون امتلاك أدوات فكرية أو عملية للتغيير.

تحولت مفردات مثل الحوار، الإنقاذ، الديمقراطية، إلى عناوين جوفاء للتموضع داخل الحقل السياسي، أكثر من كونها إجابات عن حاجات المجتمع. ويبرز في هذا الخطاب حضور كثيف لمفهوم «الوطن» مقابل غياب شبه تام لمفهوم «المواطن». فالوطن يُقدم كرمز فضفاض لتبرير المواقف، بينما يُغيَّب المواطن بما هو كيان محسوس، له مصالح وأسئلة واقعية تتعلق بالحريات والحقوق الاجتماعية. ورغم تكرار مفردة الوطن في خطابات الإنقاذ، فإنها تُستعمل بمعنى تجريدي طهراني، لا بمعناها المدني القائم على الحقوق كما وردت في المواثيق الدولية. فلا حديث عن المساواة الجندرية أو الحقوق الفردية أو العدالة الاجتماعية والبيئية.

إن التركيز على السيادة السياسية بمعناها المركزي، دون توسيعها لتشمل سيادة المواطن على مصيره، يجعل الخطاب أسير تصور هرمي تقليدي للدولة على حساب المجتمع. هكذا يُستبدل المواطن كفاعل ومصدر للشرعية بـ«الوطن» كرمز تعبوي مجرّد. فيتحول الوطن إلى قناع يلبسه السياسي، فيما يبقى المواطن الذاكرة الحية والواقع المعيش القابل للمساءلة.

وعليه، يبدو خطاب الإنقاذ متعاليا على الواقع، يحوم في فضاء الشعارات بدل أن يجيب عن الأسئلة الجوهرية التي يطرحها الناس: ماذا فعلتم بنا؟ بل ماذا أنتم فاعلون بأنفسكم؟ وقبل مراهم الوعود المستقبلية، كيف يمكن بناء الثقة مع ذوات لم تكن جديرة بها أصلا؟

تجاهل هذه الأسئلة شكل من أشكال التلاعب السياسي ورفض للاعتراف بالأخطاء، وهو ما يعيد إنتاج عبث الماضي نفسه. بل إن جزءا من المعارضة بات ينهل من معجم السلطة: الفساد، السيادة، القرار الوطني، تطهير المناخ السياسي. وهو ما يكشف تواطؤا رمزيا بين الطرفين في تمثّل الأزمة وسبل الخروج منها. بعبارة أخرى، تعارض المعارضة النظام داخل لغته لا من خارجها، مما يجعلها عاجزة عن إنتاج قطيعة معرفية مع منطق التفكير السياسي السائد.

2. غياب المراجعة التاريخية كخلل بنيوي أو هروب من الاعتراف

تتجاهل أغلب مبادرات الخروج من الأزمة مراجعة عقد الانتقال الديمقراطي (2011–2021) الذي انتهى إلى الانسداد. فلا نجد تقييما جديا لأداء الأحزاب، ولا مساءلة للارتهان للخارج، ولا تحليلا لتجربة «التوافق» التي أفرغت الديمقراطية من مضمونها التداولي. كما يغيب التفكيك النقدي للعلاقة الملتبسة بين الديني والسياسي، وما نتج عنها من التباس في تعريف الدولة ووظيفتها.

بهذا المعنى، تتعامل خطابات الإنقاذ مع الأزمة بوصفها حادثا طارئا لا نتيجة لمسار اجتماعي طويل. هذا القفز على البعد الزمني يحرم الخطاب من عمقه السوسيولوجي، ويحوّل الإنقاذ إلى شعار بلا ذاكرة، أي إلى محاولة لتجديد الشرعية دون تجديد الفكرة. فيغدو خطاب الإنقاذ مجرد آلية لغوية، لا مشروعا إصلاحيا حقيقيا.

تكشف القراءة المتقاطعة لهذه الخطابات أن الأزمة التونسية لم تعد أزمة نصوص أو مؤسسات، بل أزمة مصداقية وشجاعة أدبية وخيال سياسي، لن يتحقق إلا بتأصيل البعد التداولي للديمقراطية. خطاب الإنقاذ كما نراه اليوم كسيح؛ يحاول احتواء واقع متسارع بأدوات تأويلية متقادمة، فيتحول إلى عائق للفهم لا إلى وسيلة للفعل.

بهذا المعنى، تبدو المعارضة والسلطة وجهين لخيال سياسي متكلس، يهاب المستقبل ويعيد إنتاج الماضي على هيئة مشروع. ولعل العتب لا يوجَّه إلى السلطة وحدها، بل أيضا إلى من صدّق أن بإمكاننا بناء ديمقراطية بأدوات فكرية لا تعي زمنها، و شخصيات لا تملك شجاعة النظر في المرآة.

* صحفي و عضو سابق لمكتب الهايكا.

شارك رأيك

Your email address will not be published.