الإدارة الأمريكية اليوم تتبنّى سياسة القوّة لفرض السلام من وجهة نظرها، وهو السلام الذي يحقق لها مصالحها أولا، ومن ثم تتجلى نظرية “أمريكا أولا” لتتمدّد هذه الرؤية نحو منطق السيطرة الكلية على مجريات الأحداث الدولية، لكن هذا المنطق وإن نجح في بعض الدول الضعيفة وغير المستقرة، فإنه يصطدم بقوى أخرى كبرى لها وزنها العالمي.
فوزي بن يونس بن حديد
بات واضحًا أن تغيير اسم وزارة الدفاع الأمريكية إلى وزارة الحرب، ينبئ بانتقال الإدارة الأمريكية من مرحلة الدّفاع عن حقوق الإنسان في العالم إلى مرحلة الهجوم والتوسّع وفرض منطق القُوة والهيمنة لإحلال السلام، وهي منهجية دأب الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب إلى ترسيخها كعقيدة جديدة في الجيش الأمريكي الذي يستعدّ كما يبدو لحروب قادمة متنوعة بدءًا من فنزويلا ووصولا إلى الشرق الأوسط وانتهاء بإفريقيا، حيث تعمّد ترامب ومن ورائه وزير حربه بيتر هيغسيث سلوك هذه المنهجية المفرطة في استعمال القوة لفرض حالة جديدة من السلام الذي يزعماه ويتوقعاه طريقا وحيدا لتحقيق السيطرة على العالم والتوسع إفريقيّا وآسيويّا.
التدخل والتوسع والسيطرة
ومن شأن ذلك أن يدفع القوات الأمريكية إلى التغوّل والتوغّل في المناطق التي تريد أن تتوسّع فيها وتتكئ على مزاعم واهية من شأنها أن تؤجج الصراعات العالمية، ففي فنزويلا يعتقد الرئيس الأمريكي بأنه يحارب عصابات المخدرات وهو في الحقيقة يسعى لتغيير النظام المعادي للولايات المتحدة الأمريكية وقد ذكرت تقارير سابقة أن المخابرات الأمريكية حاولت إرشاء قائد الطائرة الرئاسية في فنزويلا لتغيير وجهة الطائرة المُقلة للرئيس الفنزويلي المعادي لأمريكا نيكولاس مادورو غير أن قائدها رفض ذلك بشدة واعتبره خيانة في حق عمله.
وفي إيران تبرّر أمريكا تدخلها العسكري لإجبار النظام الإيراني على تغيير موقفه تجاه إسرائيل عبر فرض منطق القوة عندما هاجمت مواقع إيران النووية وزعمت أنها قضت على هذا البرنامج الذي كان يُخيفها، وعبرت في أكثر من موضع وفي أكثر من مناسبة أنها تسعى لإسعاد الشعب الإيراني من خلال طرح أفكار جديدة مرة بالترغيب وأخرى بالترهيب.
وفي نيجيريا اليوم يهدد الرئيس الأمريكي دولة إفريقية ذات سيادة بزعمه أنه يدافع عن المسيحيين، واتخذ ذلك ذريعة لمحاولة زعزعة الاستقرار في ذلك البلد الذي يشهد نزاعات داخلية منذ عقود من الزمن.
ترامب يرسي دعائم الاستعمار
وعلى هذا الأساس يتبنى الرئيس الأمريكي ووزير حربه الاتجاه الديني مرة لمواجهة ما يسمّيانه التطرف الديني أو العرقي، ومرة أخرى الدفاع عن الشعب المحروم من العيش بأمان وسلام، للتدخل والتوسع والسيطرة على مقدرات الشعوب، وإذا نظرنا إلى ما يحدث في الدول المضطربة علاقاتها مع العالم والتي ذكرناها آنفا من نزاعات فإنها تملك مخزونات من الذهب والألماس والنفط والغاز ما يؤهلها أن تكون دولا قوية يمكن أن تغير مجرى الحياة داخلها، لكن المارد الأمريكي لا يرضى أن تهدأ مثل هذه الدول ويزعم أنه يقدم لها حلولا لإحلال السلام وإرساء طرق الاطمئنان، لكنه في الوقت نفسه يرسي دعائم الاستعمار والاحتلال من جديد من خلال هذه النظرية الجديدة في العلاقات الخارجية مع الدول.
فالإدارة الأمريكية اليوم تتبنّى سياسة القوّة لفرض السلام من وجهة نظرها، وهو السلام الذي يحقق لها مصالحها أولا، ومن ثم تتجلى نظرية “أمريكا أولا” لتتمدّد هذه الرؤية نحو منطق السيطرة الكلية على مجريات الأحداث الدولية، لكن هذا المنطق وإن نجح في بعض الدول الضعيفة وغير المستقرة، فإنه يصطدم بقوى أخرى كبرى لها وزنها العالمي، كالقوة الروسية التي تتحدى المنهج الأمريكي وتسعى إلى تعدد الأقطاب وإصلاح المؤسسات الأممية التي ظلت موالية للإدارات الأمريكية بحكم أنها أكبر مموّل لها، وبالتالي خرجت أمريكا من دورها كدولة عالميّة راعية للديمقراطيّة ومُدافعة عن حقوق الإنسان في العالم إلى تقمّص دور جديد يجعلها فعلًا مثل رجل راعي البقر الذي يحاول بسط قوته على من حوله لاستغلال ما في يد البروليتاريين وليبقى النبلاء وأصحاب الإقطاع هم المسيطرون على مفاصل الدولة الحديثة القوية التي يجب أن تُطاع في ظل صراعات إقليميّة ودوليّة متشابكة.
ولا غرابة أن يتحوّل منطق القوة إلى الداخل الأمريكي، حينما يفرض ترامب رؤيته الداخليّة المُستقبليّة في السيطرة على الحكم مدى الحياة، ويبني لنفسه قاعة كبرى في البيت الأبيض للاستمتاع بالرقص ويهاجم منافسيه من الدّيمقراطيين الذين لا حقّ لهم في نظره أن يعارضوه، فجاءه من يقضّ مضجعه ليقلب الطاولة عليه في أول امتحان خارج سيطرته، ويفوز بعمدة أكبر مدينة في أمريكا وهي نيويورك، وقد فاز زهران ممداني بهذا المنصب، وهو المشهور بدفاعه عن فلسطين وتهديده نتنياهو بالاعتقال إن حطّ قدمه على تراب مدينته.
فهل سيصمد ترامب ووزير حربه، ومن ثم نتنياهو ووزير دفاعه في التربص بالضعفاء في العالم، لتهديدهم وإيلامهم واستغلال ثرواتهم بزعم الدفاع عن عرق أو دين أو مبدأ؟ أم ستنقلب عليه الطاولة رأسًا على عقب في عقر داره، ويصبح ممداني موسى فرعون الذي عاش بين ظهرانيه وكان سببًا في تدميره والقضاء عليه؟



شارك رأيك