حوادث الأنشطة تحت المائية : من أجل سياسة عمومية تتبنّى السلامة

شهدت السواحل التونسية خلال 2025 تواصلا مفزعا للحوادث المرتبطة سواء بالصيد الترفيهي بالغطس أوبالغوص المحترف (صيد المرجان، صيد الإسفنج، تربية الأسماك…)، وهي حوادث خطرة تؤدّي إلى الموت في غالب الأحيان. ويأتي استمرار هذه الحالات في سياق عام يتّسم بارتفاع عدد الممارسين وضعف الثقافة الوقائية مقارنة بدول شمال المتوسّط. هذه الحوادث، وإن كانت لا تُرصد بإحصائيات رسمية مفصّلة حسب نوع النشاط أو إطاره الزمني والمكاني، فهي تكشف مزيجًا خطرًا من الضغوط الاقتصادية، والاندفاع الشبابي، والفراغ التنظيمي على مستوى التكوين والسلامة. ​

مهدي الطبّاخ *

التعاطي مع الحوادث تحت المائية

في تونس، تبقى غالبيّة الحوادث غير معلنة، باستثناء حالات الوفاة. ويقع التعاطي العام معها بإدماج جميعها، مهما كان نوع النشاط، تحت خانة “حالات الغرق” عامة و”حوادث الغوص” خاصّة، ذلك دون تصنيف دقيق يميّز بين النشاط الترفيهي والنشاط الاحترافي، أو بين الغوص والغطس، أو بين الغوص على المرجان أو الإسفنج أو على الأحواض أو للأشغال أو للترفيه. هذا الخلط يجعل التحليل والقراءة العلمية الحقيقية لحجم هذه الظاهرة أصعب ان لم يكن مستحيلا.

بالنسبة للتعاطي الإعلامي، فقد اتّسم في العديد المرّات بالخلط بين حوادث الصيد بالغطس وممارسة الغوص الترفيهي، تجلّى ذلك في الصور التي رافقت مثل هذه الأخبار، والتي لا تعبّر حقيقة عن نوعية النشاط. ما عدى ذلك، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورها في الإعلان عن حالات الفقدان أو عمليّات البحث وانتشال الجثث. بالنسبة للإصابات البليغة، ورغم خطورة تداعياتها، فإنّها بقيت لحدّ الآن في خانة المسكوت عنه لدى عموم الممارسين للأنشطة تحت المائية، سواء الهاوية أو المحترفة.

الأسباب التقنية والبشرية

في الصيد بالغطس (بكتم النفس)، يتصدر فقدان الوعي (syncope) قائمة أسباب الغرق، ذلك نتيجة حبس النفس لفترات طويلة مع القيام بمجهود بدني عالٍ، وأحيانًا مع فرط إفراغ الرئتين قبل الغطس  (hyperventilation)  دون وعي كافٍ بخطورته. كما يساهم تجاوز الحدود الشخصية للعمق ومدّة كتم النفس، والممارسة دون مرافق، في تحويل أبسط خطأ في التقدير إلى حادث قاتل.

وقد أضاف قرار وزارة الفلاحة الصادر في أفريل 2025 ، ​درجة من الخطورة في هذا النشاط. حيث يتعيّن وفق هذا النصّ الترتيبي، تعاطي الصيد الترفيهي بالغطس انطلاقا من الشواطئ ودون استخدام مراكب، وهو ما يجبر الغطّاسين على السباحة لمدّة طويلة، انطلاقا من الشاطئ، ليزيد من إرهاقهم قبل الوصول لمنطقة الصيد. كما يمنع ذلك أيضا إيجاد مُرافق قد يتدخّل عند الحاجة، أو وسيلة لإخراجهم بسرعة عند حدوث طارئ. 

في الأوساط المهنية، وخاصة المتعلقة بصيد المرجان، وأمام هشاشة المنظومة، يضطرّ الغوّاصون إلى بلوغ أعماق كبيرة بحثًا عن مورد صار نادرًا، بالإضافة إلى استعمال تجهيزات متقادمة، أو غازات غير ملائمة لعمق ومدّة الغوصة عادة، هذا مع غياب أيضا لمنظومة مراقبة وتدخّل حينيّة وفعّالة عند وقوع حوادث. هذا السياق، يجعل من كل دخول للبحر، احتمالا حقيقيا للوعة أو لحداد في أحد العائلات التونسية.

بالنسبة للغوص في مزارع تربية الأسماك، وحسب ما يعاينه الجميع ميدانيّا أو في ما ينشره الغوّاصون في صفحات التواصل الاجتماعي، فإن أسباب الحوادث تتمحور أساسا في استعمال مزوّدات هواء مهترئة، أو أسطوانات غير مُعاينة، مع عدم استعمال حاسوب الغوص ومقياس الضغط أو عدم احترام فترات السطح، أو تحوّل المهمّة من المعاينة إلى الصيد. ممّا يحوّل هذه المهنة إلى فضاء خطير مفتوح على كل الإحتمالات.​

ثغرات الإطار التنظيمي وضعف منظومة التكوين

رغم وجود أطر قانونية لتنظيم الغوص، يضلّ هذا النشاط ممركزا أساسًا على النوادي السياحية المرخّصة لها وفي شركات تربية الأسماك ولدى مجهّزي صيد المرجان والإسفنج، في حين تتم أغلب عمليات الصيد الترفيهي بالغطس خارج أي إطار منظّم. أمّا التراخيص المُسندة، فهي لا تُرفَق بمنظومة تدريب إلزامية على السلامة. كما أنّ غياب قاعدة بيانات وطنية مركزيّة محيّنة لحوادث الغوص والصيد بالغطس، يحرم صانع القرار من أداة التشخيص الضرورية لوضع سياسات وقائية فعّالة​.

ثقافيا، يسود في تونس منطق “الخبرة الذاتية” أو”الوراثة” في تعلّم الصيد بالغطس، حيث يتلقّى الكثير من الشباب معارفهم من أصدقاء أو أقارب أو فيديوهات على الانترنات، وليس من مدربين معتمدين. بالإضافة إلى تمجيد خطر البحر بوصفه علامة “شجاعة” و”رجولة”، لا كمساحة تتطلب تواضعا مبدئيّا ومعرفة علميّة وانضباطًا صارمًا. هذه الخلفية، تجعل الخطاب الوقائي يبدو أحيانًا وكأنّه دعوة للتراجع أو “المنع”، في حين أنّه في الحقيقة استثمارًا لممارسة سليمة لهذا النشاط على المدى البعيد.

أمّا بالنسبة للغوص، فمنذ توقّف التكوين في اختصاص صيد المرجان بطبرقة والإسفنج بجرجيس، صارت هذه المهنة تعتمد على التكوين في الغوص الترفيهي، الذي لا يمكن أن يرتقي إلى تكوين مختصّ في الغوص العميق المحترف واستعمال الغازات الثلاثية الواجب استعمالها في صيد المرجان. في هذا السياق، كانت قد تحمّلت الجامعة التونسية لأنشطة الغوص مسؤوليّتها كاملة بالتذكير عبر بلاغ أصدرته في صائفة  2025 على صفحتها الرسمية، تُذكّر فيه أنّ الشهائد التي تُسندها لا تخوّل لصاحبها ممارسة مثل هذه الأنشطة من الغوص المحترف.

كما أنّ مدرسة التكوين المهني المحدثة مؤخّرا بمدينة جرجيس، تحت الإشراف المشترك بين وزارة التكوين المهني والتشغيل ووزارة الدفاع الوطني، لم تعرف بعدُ الانطلاقة الفعاّلة التي تجعلها تغطّي الفجوة الحاصلة في منظومة التكوين في الغوص المحترف.

مقارنة بدول متوسّطية

يختلف الأجوار في نظرتهم للمسألة، فنجد من يضع السلامة الجسدية للغوّاص في أعلى سلّم اهتماماته، في حين نجد من يركّز على الحفاظ على الثروة الطبيعية، أومن يحمل مقاربة أمنيّة للموضوع.

في إيطاليا وإسبانيا مثلًا، يخضع الصيد البحري بالغطس لمنظومة تراخيص فردية، وتكوين أساسي، واحترام صارم لقواعد من قبيل حمل عوامة إشارة، منع الصيد قرب الشواطئ المزدحمة والموانئ، وتحديد أوزان المصيد اليومي، مع منع تامّ للجمع بين اسطوانة الهواء والصيد بالرمح. في هذه البلدان، يترتّب عن خرق القواعد، غرامات ثقيلة قد تتجاوز ثلاثة آلاف يورو، مع حجز التجهيزات وحتى وسيلة النقل المستعملة. وهي منظومة قانونية مشابهة للنصوص الوطنية، غير أنّ ضعف أجهزة المراقبة في تونس، واستحالة التطبيق على أرض الواقع، تجعل المقاربة الردعية ضعيفة أمام مقاربات أخرى يجب ايجادها بصفة تشاركية.

كما طوّرت بعض الدول المتوسطية قواعد خاصة بالمناطق البحرية المحمية، مع منع الصيد تمامًا أو تقنينه بشدّة، إضافة إلى منظومات إحصاء وطنية لحوادث الغوص، تُستثمر في تحديث البروتوكولات الوقائية والتدريبية. هذا العمل التنظيمي يتغذى بشراكة مستمرة بين الدولة، وبين النوادي، بما يحوّل الممارسين إلى جزء من الحلّ لا مجرد موضوع للرقابة.

في الجزائر، التي تعرف عدد كبير من الحوادث، يستغرق الحصول على رخصة صيد أشهر عديدة، اذ تعتبر السلطات هناك أنّ بندقية الصيد تحت الماء هو سلاح لا يقلّ خطورة عن الأسلحة الناريّة. وبالتّالي فان عمليّة مسكه لا تقلّ حساسيّة عن مسك سلاح ناري، ممّا ترتّب عنه الحدّ من عدد الممارسين وحصره دون التقليص في الحوادث.

الحلول الممكنة

-احداث منظومة ​مركزية لإحصاء الحوادث التحت مائية بمختلف تصنيفاتها، مع إيجاد مرصد لتجميع المعلومة وتحليلها ومن ثمّة وضع المقاربات والبرامج اللازمة للحدّ من هذا النوع من الحوادث

-اعتبار الصيد البحري بالغطس نشاطًا عالي الخطورة يخضع لتكوين إلزامي، بشهادة سلامة أساسية، مع محتوى يدمج الفيزيولوجيا، إسعاف الغريق، ومخاطر فقدان الوعي، بما يجعل دخول البحر مشروطًا بحدّ أدنى من الكفاءة. ​

-يحتاج الإطار التشريعي في تونس إلى تدعيم آليات الردع والوقاية عبر فرض الاشعار القبلي ومنع الممارسة الفردية تماما، وتحديد الأعماق القصوى للمبتدئين. كذلك تكثيف المراقبة على مزوّدات الهواء والأسطوانات المستعملة في نشاط الغوص المحترف. كما يمكن استلهام تجربة الدول المتوسطية في تعديل الغرامات الرادعة على الصيد الليلي أو في الأماكن المحجّرة.

– الإسراع في إعادة هيكلة المنظومة التكوينية لممارسة الأنشطة التحت مائية، سواء كانت الخاصة بالصيد البحري بالغطس أو الغوص المحترف مع التركيز على السلامة أوّلا.

– يبقى البعد التربوي والإعلامي حاسمًا وتظلّ التوعية خط الدّفاع الأول، عبر حملات موجّهة خصيصًا للممارسين، تشرح مخاطر التيّارات، علامات التعب ونقص الأكسجين، وكيفية التصرف عند فقدان شريك أو تأخره عن الصعود. وأمام غياب كلّ دور للهياكل الوطنية في تحقيق ذلك، يمكن للجمعيات والنوادي المختصة أن تلعب دورًا محوريًا في تحويل ثقافة “المغامرة الفردية” إلى ثقافة “السلامة الجماعية” لدى ممارسي الصيد البحري بالغطس أو ممارسي الغوص المحترف.

من منطق المغامرة العشوائية، إلى منطق الشغف المسؤول

 فبين قسوة البحر وثقل المعاناة الاجتماعية لدى البعض، وبين الشغف وخوض المغامرة لدى البعض الآخر، تُصبح حماية أرواح من يُخاطرون في الأعماق مسؤولية مشتركة، تبدأ من قرار فردي واعٍ وتنتهي بسياسة عمومية تضع سلامة الإنسان قبل كل شيء. ويصبح العمل ضروريا على المدى المتوسّط والبعيد، لتغيير جذري في مخيال ممارسي الأنشطة التحت مائيّة، حتى لا يبقى انتشال جثّة غواص واحد إنجازًا جماعيًا أو ترفًا تنظيميًا، بل لحظة للوقوف على فشل في تحقيق الحدّ الأدنى من شروط الممارسة السليمة، ونقطة انطلاق، لتعيد تونس رسم علاقتها بالبحر، من منطق المغامرة العشوائية، إلى منطق الشغف المسؤول.

مختصّ في نشاط الغوص.

شارك رأيك

Your email address will not be published.