في ردّ على مبادرة رئيس الجمهورية التونسية لإقرار المساواة في الإرث، انبرى السيد شوقي علام، مفتي الديار المصرية، في بيان إعلامي نشر اليوم للتأكيد أن المساواة بين الرجل والمرأة أمر مخالف للشريعة الإسلامية؛وهو من الخور. هل العدل من الضلالة؟
بقلم فرحات عثمان *
إن كلام المفتي لا يبعد للأسف عن الخور لأنه يخلط بين الشريعة الإسلامية، التي ليست غير الاجتهاد البشري لفهم الإسلام، وبين أحكام هذا الدين التي لا نستنبطها من الفهم البشري لها، بل من تعاليم القرآن؛ ولا مناص من التثوير المستدام لمقاصده. فلا شك أن تثوير معاني دين القيمة لا ينتهي ما بل بحر صوفة، وذلك بمقتضيات أحكام الفرقان نفسه الذي أوكد الاجتهاد حتى لا يصبح الدين غريبا؛ فهل هذا ما يربده المفتي المصري، والإسلام على قاب قوسين أو أدنى من الغربة التي حذر منها صاحب الدعوة، وهي الضلالة التي أصبح فيها؟
نتبيّن معالم منطق المفتي الأخرق الذي يضر بالدين السمح ولا ينافح عنه كما هو يعتقده لاعتماده على إجماع العلماء على مر العصور وكأن الإجماع البشري حقيقة من الحقائق الإلهية؛ أليس هو اجتهاد يقتضي الصواب والخطأ؟ إن متخيل المفتي ولاوعيه يحيلان لا محالة إلى حديث للرسول الأكرم، فهل لحديث الرسول قيمة كلام الله؟ وهل حديث عدم اجتماع أمة الإسلام على ضلالة من الأحاديث القدسية؟ بل هل هو من الأحاديث الصحيحة؟ ألم يضعّفه العديد من السلف؟ ثم هل الضلالة هي الخطأ؟ وهل تحقيق المساواة التامة بين المؤمنين من الضلالة؟ هذه أسئلة نترك الرد عليها لضمير السيد المفتي، مع الاكتفاء بتذكيره، فلعله سهى عن ذلك، أن دين الإسلام هو العدل، ولا عدل دون مساواة في المبدأ وفي التفصيل. فهذا هو الذي ينتمي للقطعيات،لا الفهم البشري لحكمة الله التي لا مجال للعقل البشري بلوغها.
كيف يقول المفتي بقطعية الدلالة على أن الله يرفض المرأة حقها في المساواة مع الرجل رغم علمه أن لا تفاضل بين المؤمنين إلا بالتقوى؟ إنه يتعلّل لذلك بأن ألفاظ الآيات في موضوع الإرث لا تحتمل إلا معنى واحدًا ينبغي أن تُحملَ عليه، وأن الاجتهاد في مثل تلك الحالات يؤدي إلى زعزعة الثوابت التي أرساها الإسلام. وهذا يذكّر بمنطق النوكى الذي لا يشرف الإسلام، خاصة أهل الإفتاء فيه. فبذلك نقزّم معاني القرآن، وهو كلام الله،في حدود المعنى الذي نذهب إليه في الألفاظ، رغم علمنا مدى اتساع العربية إلى حد احتمال اللفظ الواحد للمعنى وللمعنى المعاكس. فهل المعنى الذي اعتقدناه للفظ أزلي؟ ألسنا بذلك نجرّده مما فيه من معاني لعل الله أرادها فيه وأخفاها زمنا عنا؟ ألسنا بذلك أيضا، بهذه الأزلية الدعية لمعنى واحد، نشرك ما في البشر من ادعاءات مخالفة لمعاني خفية ربانية في اللفظ نفسه، فإذا نحن ننقض مقاصد الدين القطعية، كتلك التي تخص العدل والأنسية؟
العدل في الميراث هو القطعي الدلالة:
يقول السيد شوقي علام إن تقسيم الميراث حسب قاعدة استحقاق الرجل مثل حظ الأنثيين حُسِمَ بآيات قطعية الثبوت والدلالة. هبنا وافقناه لحظة في رأيه غير الصائب هذا؛ فهل يوافقنا إذا قلنا، أخذا بنفس منطقه، أن الله أقر أيضا بنصوص قطعية الدلالة قطع اليد للسارق ووضعية العبودية وملك اليمين؟ ثم هل سيدافع على حتمية العودة إلى هذه النصوص التي لم يعد المسلمون يأخذون بها نظرا لتطور فهمهم لدينهم؟ فالمفتي يبرر كلامة الخاطىء في فهم الدين بأنه لا اجتهاد في النصوص التي هي قطعية الدلالة، قطعية الثبوت، بدعوى تغيُّر السياق الثَّقافي الذي تعيشه الدول والمجتمعات.ليبيّن لنا إذن موقفه من الأمرين المذكورين، بل ومن الجلد والرجم وغير ذلك مما شان به أهل الإسلام دينهم في فهمهم السخيف له، هذه الصبيانية التي تمنع أن يبقي الإسلام رحمة للعالمين كما هو أبد الآبدين.
النصوص التي يقول المفتي المصري في بيانه أنه مقطوع بدلالتها وثبوتها ليست إلا غيض من فيض حكمة الله اللدنية التي لا مجال للعقل البشري فهمها والقطع بصحة فهمه لها، حتى وإن علا كعب هذا العقل في النباهة.ترى،هل يكون فقيه اليوم أفضل من أصحاب المذاهب الأربعة المعتمدة، الذين بيّنوا بوضوح أنهم لم يقوموا إلا باجتهاد شخصي من شأنه أن يصح كما من شأنه ألا يصح؟ ألم يحرص هؤلاء على الإضافة أنهم قابلون حتما لإصلاح طرحهم إذ لعلهم لم يصيبوا فيه؟ إن ذاك السلف التقي حقا، لئن أصاب لعصره، ما أصاب لعصرنا؛ فهل نتجاهل مقتضيات زمننا الراهن للأخذ بما أكل عليه الدهر وشرب من فهم بشري ناقص بالضرورة؟ أليس الإسلام يصلح لكل زمان ومكان؟ فكيف يكون هذا إذا تحجرت تعاليمه لتعنّت البعض من المدّعين العلم فيه ومعرفة مقاصد الله في شريعته؟حقا، لقد علموا شيئا ولكن غابت عنه أشياء عدة، منها أن المعرفة اللدنية لا يفهمها البشر إلا لماما؛ لذا، يبقى قدرهم في الاجتهاد المستدام.
إن ثوابت الشريعة، خلافا لقيل المفتي المصري، لا تلزم الدين الإسلامي الذي هو أوسع من الفهم البشري؛ فهي في ثوابت الفرقان التي أساسها العدل، بعد التوحيد، مع حسن النية. فهل حسنت نية االقائل بأن انعدام المساواة في الميراث من العدل؟ من يصدّق كلام النوكى هذا؟ إن العدل في الميراث لهو القطعي الدلالة من خلال معاني القرآن إجمالا وتفصيلا. وقد علمنا أن كلام الله حرف وروح؛ فمتى كان الحرف أعلى من الروح؟
نعم، كما يقول السيد علام، القرآن الكريم قطعيُّ الثبوت من ناحية آياته، إلا أن ما يعتقده من قطعية الدلالة فيها ليس قطعيا إلا في الذهن البشري الذي لا يفتأ عن التطور. وقد رأينا الذهن البشري يعتقد مثلا بأن الشمس تحوم حول الأرض؛ فقال أهل المسيحية أن مركزية الأرض في العالمين قطعية الدلالة، معتمدين في ذلك على تعاليم ملتهم، قبل أن يعترفوا بالخطأ، فكفوا عن تشويه دينهم. وها نحن أولاء نفعل فعلهم في دين الإسلام فنظلم دينا ارتقى بتعاليمه إلى مستوى العلمية لاعتماده العقل؛ فهل نقول اليوم بسطحية الأرض؟
وبعد، كان التقول على الله في النصرانية ممكنا لوجود كنيسة ومرجعية كهنوتية، وهذا غير موجود في الإسلام؛ فهلا استحى من يتكلم باسم الله إلى حد أن يدّعى فهم حكمته فهما قطعيا ينافي مقصد شرعه في العدل التام والإناسة التمامية! إن مقولة من يرفض حق المساواة في الإرث كقطعية ثابتة في الإسلام لهي من تلك الحاجات التي في نفس يعقوب، مما يرفض القائلين بها الإفصاح عنه؛ إنها من نزغات النفس الأمّارة بالسوء التي حرص ديننا على مجاهدتها فأقر لذلك الجهاد الأكبر كما أقرّ، توازيا معه، الاجتهاد.
من العدل أيضا إمكانية الحظين للأنثى:
كلام المفتي مفتي الجمهورية المصرية أنَّ الإسلام كان حريصًا كل الحرص على مساواة الرجل بالمرأة لا يقبل تحديده لذلك في مجمل الحُقوق والواجبات مع رفضها في كل تفصيلة؛ فالتفاصيل ليست تفاصيلا إلا عند لزومها للمبادىء التي تختص بها إجمالا، وإلا فهي تنسفها من الأساس. وهبنا، مرة أخرى، ذهبنا إلى موافقة المفتي في إمكانية ذلك، خاصة عندما يقول أن التمايزَ في أنصبة الوارثينَ والوارثات لا يَرْجعُ إلى معيار الذُّكورةِ والأنوثةِ، وإنما لحِكَمٍ إلهيةٍ ومقاصدَ ربانيَّةٍ قد خَفِيتْ عن الآخذين بمبدأ العدل. فليبيّن لنا المفتي كيف نفهم هذه الحكم الإلهية والمقاصد الربانية إن لم يكن ذلك في العدل إجمالا وتفصيلا؟ ثم، لئن خفيت حكمة الله في انعدام العدل، أليست تخفى هي أيضا على من يعتقد أن الله لا يريدها للمؤمنات؟ فمتى كان الله ظلاما للعبيد؟ وأي دليل على ذلك بغير العدل التام؟
إن قاعدة الحظ الأفضل للذكر كانت من باب العدل في زمن لم يكن للمرأة أي نصيب؛ وبما إن هذا الزمن ولى وانقضى، فليس هو من العدل في شيء اليوم، بل لعل العدل الإسلامي، إذا اتبعنا النهج الرباني، يكون في قلب الآية عند الاقتضاء لنجعل للأنثى مثل حظ الذكرين في حال قيام المرأة بأعباء العائلة مثلا ؛ وكم مثل هذه الحالة منتشرة في الأرضين المسلمة! أليس هذا ما يقتضيه كلام المفتي، إذ ذلك من شأنه القطع فعليا مع شبهة عدم كمالِ أهليةِ المرأةِ في الإسلامِ؟ فأي دليل أفضل منه على أن المرأة في نظرِ الإسلام وشرعهِ، كما يؤكده مفتينا، كالرجلِ تمامًا، لها ما للرجل من الحقوق، وعليها ما عليه من الواجبات؟
ذلك لأفضل دليل مما يأتي به المفتي لدحض تعلة ما لم يدّعيه قط أنصار المساواة، أي أن الإسلامَ يُورِّثُ مطلقًا الذكرَ أكثرَ من الأنثى؛ فلا فائدة من تعداد الحالات التي تحصل المرأة فيها أكثر من الرجل، وهي كما يبيّنه المفتي أكثرُ من ثلاثينَ حالةً في الميراث، فالقضية هنا مبدئية، إذ هي من باب العدل الصحيح لا الخرافي. فلئن حصلت المرأة في تلك الحالات على أكثرَ من الرجل، فذلك من باب العدل الرباني الذي يفتح الباب نظريا لما عرضناه آنفا من عدم رفض الذهاب بالعدل إلى حده الأقصى، أي للأنِثى مثل حظ الذكرين، عندما تسمح به الظروف وأخذا بالمقصد العادل لديننا الحنيف الذي هو العدل التام.
وهذا، طبعا، لا يتنزل في خانة محاولات التغيير لما فرضه الله في كتابه الكريم من حقوق للرجل والمرأة على حد سواء، كما يقول المفتي، بل هو الأخذ الصحيح الكامل بجميع حقوق المرأة وعدم ظلمها.وذلك ما تسعى له، حسب المفتي، دار الإفتاء المصرية؛ ونحن لا نشك فيه. إلا أننا نقول أن الحقوق لا تقف عند البعض المذكور من حقوق علمية وسياسية ومجتمعية، بل هي تبدأ من موقف مبدئي يقرّه الدين القيّم، وهو أنه لا تفرقة إلا بالتقوى. وهي من الجهاد الأكبر الذي لا ينتهي كما لا ينتهي الاجتهاد، خاصة في مجال حقوق الناس التي هي من نظرهم لأجل صبغة الإسلام كدين ودنيا؛ ولا حد لتطور المعاملات البشرية ما دامت تلتزم القطعي من الدين في مقاصده.
وبعد، لقد بيّن الله في جانب العبادات، وهي التي لا اجتهاد للعباد فيها، أن ذلك لله، به طوّر دينه بما فيه الخير والبركة فكانت آلية النسخ؛ وبما أن كل ما أتى من الله هو هداية لعباده،خاصة الأتقياء منهم، فهلا اهتدينا بما فعل الله في ما اختص به من أمور العقيدة فسرنا على هديه في موضوع المساواة في الإرث، وغيره أيضا، كل ما فيه البر بالعباد لأجل عيش مشترك، كله أمن ودعة وسلام؛ أليس هذا بحق هو الإسلام؟
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
حديث الجمعة: مقتل الخليفة عثمان، جناية الإسلام السياسي الأولى
حديث الجمعة : لنواجه الارهاب بالعمل صادقين لأجل السلام في فلسطين! (3)
شارك رأيك