ربما كان من المفيد بعد 2011 أن يتمّ تطوير المنجزات الثقافية التي عرفتها تونس منذ عصر الإصلاح ومراجعة أهدافها وطرق تسييرها ودعم مواردها لتكون ولكن عوضا عنها لاحظنا اِنتشار ثقافة الاِستهلاك وتغييب الكفاءات العلمية والإبداعية وإبراز مظاهر الشعبوية واِحتفاء بأعمال مبتذلة لا تساهم إلا في تدنّي الذّوق وتفشّي الرّداءة وحتى حرية التعبير التي تحققت إلى حدّ بعيد تحوّلت إلى شتيمة وهتك أعراض وبذاءة قول وأخيرا انتهى حتى التعبير عن رأي أو نقل تدوينة على صفحة خاصة إلى أحكام بالسجن.
بقلم سُوف عبيد
1 ــ
مع سنوات منتصف القرن التاسع عشر ظهر في تونس مشروع حضاري متكامل يتلخّص في مقولة “الإصلاح” يشمل خاصّة النّواحي السياسية والاِجتماعية والدّينية والتعليمية وتجلّى ذلك المشروع الحضاري خاصة في قرار تحرير العبيد وفي تأسيس المدرسة الحربية وإعلان الدّستور وتأسيس المدرسة الصّادقية للمزاوجة بين الأصالة التونسية والمدنيّة الأوروبية.
نشأ ضمن هذا المشروع الحضاري العام منهج ثقافي متكامل سار على دربه أعلام حملوا مقولاته منهم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه “أليس الصبح بقريب” وفي تفسيره “التحرير والتنوير” والشيخ عبد العزيز الثعالبي في كتابه “روح التحرّر في القرآن” وكتابه “تونس الشهيدة” وكذلك الطاهر الحداد في كتابيه “العمال التونسيون” و “اِمرأتنا في الشريعة والمجتمع” وقد اِنطلقت الحركة الوطنية من أسس ذلك المشروع الثقافي وأدبيّاته وتخرّجت مختلف أجيالها من مؤسّساته.
2 ــ
عندما حقّقت تلك الأجيال الاِستقلال في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين سارعت الدّولة الوطنية وفي فترة عشر سنوات فقط من إرساء منظومة ثقافية شاملة ومتكاملة تتكوّن أساسا من اللجنة الثقافية الوطنية التي تتفرّع عنها لجان ثقافية في كل ولاية ومعتمدية وأُحدثت عديد النوادي الثقافية مثل النادي الثقافي الطاهر الحداد والنادي الثقافي أبو القاسم الشابي بالوردية والنادي الثقافي علي البلهوان ونادي القصة وقد عمّت دُور الثقافة أغلب المدن فكانت تعجّ بالشباب من هواة فنون السينما والمسرح والأدب والرسم والموسيقى ونذكر منها خاصة دار الثقافة اِبن خلدون ودار الثقافة اِبن رشيق ودار الثقافة بصفاقس وقفصة وبنزرت والقيروان وغيرها…
لا شك أن لوزارة الثقافة التي على رأسها الأستاذ الأديب الشاذلي القليبي الدّور الأساسي في تلك الاِستراتيجية الثقافية التي شملت تأسيس الفرق الجهوية للمسرح ومن بينها خاصة فرقتا الكاف وقفصة وتأسيس أيام قرطاج السينمائية والفرقة الوطنية للفنون الشعبية واِستقبال الأديبين الكبيرين طه حسين وميخائيل نعيمة لتونس إلخ…
ناهيك عن إنشاء المكتبات العامّة والمكتبات المتجوّلة وحافلات السينما في الأرياف والبوادي وعاضد تلك الحركات الثقافية إنشاء الشركة التونسية للإنتاج السينمائي وشركة النّغم للإسطوانات ثم الدّار التونسية للنشر والشركة التونسية للتوزيع فصار الكتاب التونسي مرجعا وعنوانا للثقافة الوطنية ليتحرّر من دور النشر في الشرق والغرب.
كما اِنتشرت مجلات ثقافية رائدة مثل “الفكر” و “التجديد” و “قصص” وظهر ديوان “أغاني الحياة” للشابي و”السّد” للمسعدي و”شوق وذوق” لمصطفى خريّف و”بقايا شباب” لمحمد المرزوقي و”قلب على شفة” لأحمد اللغماني وسلسلة كتب البعث لمحمد أبي القاسم كرّو ودواوين منوّر صمادح وبرزت أسماء ثقافية جديدة مثل محجوب بن ميلاد وفريد غازي ومحمد الطالبي والطاهر قيقة ومحمد العروسي المطوي ومحمد مزالي وبدأ جيل ثقافي آخر يبشّر بحضوره المؤثر والمختلف والفاعل ثقافيا وسياسيا أيضا ألا وهو جيل الجامعة التونسية بمختلف كلياتها…
كما لاحت في الآفاق الفنيّة أسماء جديدة ففي المسرح نذكر مثلا علي بن عيّاد وعمر خَلفة وفي السّينما أحمد الخشين وعُمار الخليفي وفي الفنون التشكيلية الهادي التركي ومحمود التونسي وفي الأغنية بدأت تعلو نجوم جديدة مثل نعمة وعليّة وأحمد حمزة وفي الموسيقى قدّور الصّرارفي ورضا القلعة والطاهر غرسة… وقِسْ على ذلك بقيّة الفنون والمعارف كلّ ذلك صار في ظرف عشر سنوات ـ فقط ـ من الاِستقلال.
3 ــ
على مدى السّنوات الأولى من الدولة الوطنية كان حال البلاد الاِجتماعي والاِقتصادي والإداري وكفاءاتها العلمية ومواردها المالية وغيرها أقلّ بكثير من وضعها سنة 2011 تلك السنة الحاسمة التي عرفنا بعدها هدمًا مُمنهجا للصّروح الثقافية التي كانت قائمة فبَدَل أن تبدأ مراجعة أهداف تلك المنجزات الثقافية وبرامجها المختلفة مع إعادة النظر في المُشرفين عليها لتواكب التطلعات الجديدة لتونس ولتعبّر عن آفاقها القادمة رأينا تخفيض ميزانية وزارة الثقافة وحلّ اللّجان الثقافية مع التضييق على الجمعيات الثقافية العريقة ذات المصداقية والمستقلة باِشتراط قائمة من الأوراق الإدارية المُجحفة لكأنها شركات كبرى وهي التي تنشط بتطوّع أعضائها لا غير… نذكر مثلا جمعيات نادي القصة وجمعية قدماء الصادقية وجمعية ابن عرفة الثقافية ونادي مصطفى الفارسي… فكادت هذه الجمعيات تقتصر على اِجتماعاتها الدّاخلية من حين لآخر محافظةً على وجودها واِندثرت ملتقياتها ونواديها ونشرياتها مثلما اِمّحت وغابت من صدى النشاط الثقافي عشرات الندوات والملتقيات الجادة التي كانت في كامل أنحاء البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها…
أين مهرجانات المسرح والسينما والفنون التشكيلية والفن الشعبي والشعر الشعبي والقصة والرواية وأين ملتقى ابن منظور في اللغة وملتقى اِبن عرفة في التراث وملتقى القلصادي في الرّياضيات وملتقى الإبياني في العلوم وملتقى اِبن رشيق في النقد ؟
أين تلك المواعيد الثقافية الزاهرة في بنزرت وتطاوين وفي قرقنة وبوسالم وعين دراهم والمتلوي وقليبية وقُربة والمطوية وماجل بالعباس ومنزل عبد الرحمان وزغوان والقلعة الكبرى والمحرس وغيرها ؟
كان من المفيد بعد 2011 أن يتمّ تطوير هذه المنجزات الثقافية ومراجعة أهدافها وطرق تسييرها ودعم مواردها لتكون ولكن عوضا عنها لاحظنا اِنتشار ثقافة الاِستهلاك وتغييب الكفاءات العلمية والإبداعية وإبراز مظاهر الشعبوية واِحتفاء بأعمال مبتذلة لا تساهم إلا في تدنّي الذّوق وتفشّي الرّداءة وحتى حرية التعبير التي تحققت إلى حدّ بعيد تحوّلت إلى شتيمة وهتك أعراض وبذاءة قول وأخيرا انتهى حتى التعبير عن رأي أو نقل تدوينة على صفحة خاصة إلى أحكام بالسجن.
4 ــ
كان من المفروض مثلا أن تُدعى هيأة ثقافية مشهود لها بالكفاءة والمصداقية من جميع المعارف والفنون وممثلة للأطياف الثقافية لتُشرف على برمجة ـ المدينة الثقافية ـ التي لاحظنا أن أنشطتها لا تختلف عن أيّ دار ثقافة أخرى في البلاد لو تمكّنت من ميزانيتها ؟
وخلاصة القول أنه يجب إرساء اِستراتيجية ثقافية واضحة وشاملة فتجعل المكتسبات الماضية رصيدا لها وتتجاوز ما لم يعُد يستجيب للطموحات الجديدة وتنبثق هذه الاِستراتيجية من “مشروع ثقافي وطنيّ ” يكون نتيجة لحوار واسع تساهم في إرسائه الأطراف الفاعلة في المجتمع ويكون ذلك من خلال مجلس وطني للثقافة تنبثق منه مختلف الأهداف والوسائل…
نعم نحن في أشدّ الحاجة إلى مشروع ثقافي جديد يعتز بعبقرية شخصيتنا التونسية الضاربة في التاريخ والمتطلعة نحو المستقبل وكي لا يقال مرة أخرى في محفل رسميّ بقصر الإيليزي إن الاِستعمار الفرنسي لتونس كان فقط معاهدة حماية !!
* شاعر وكاتب عضو اِتحاد الكتّاب التونسيين.
شارك رأيك