الرئيسية » يوميات رمضانية (اليوم الأوّل): حقيقة القداسة في الإسلام!

يوميات رمضانية (اليوم الأوّل): حقيقة القداسة في الإسلام!

جامع الزيتونة بتونس.

نفتتح بتوطئة هذه اليوميات الرمضانية في طرح من أجل تجديد العروة الوثقى، وهي سلسلة طروحاتنا المتمحورة حول ضرورة قصوى هي الجهاد في الاجتهاد المتحتم اليوم على كل مسلم نزيه للدفاع عن الدين القيّم من الهجمة الفاحشة التي يتعرض لها من الخارج، وخاصة من الداخل عبر الطابور الخامس الذي ما انفك يسعى جاهدا للنيل من سماحة هذا الدين وإناسته.

بقلم فرحات عثمان *

لقد قمنا بعد بإماطة اللثام عن حقيقة الردّة واللواط في الإسلام مبيّنين أنه، في دين الحنيفية المسلمة الصحيح، لا تحريم ولا تجريم لحرية المعتقد وطلاقة الجنس المثلي الذي جعله الله في البعض من خلقه. وها نحن نبيّن في هذا الشهر الكريم حقيقة القداسة في الإسلام حتى نخلّص إبريز الإيمان الصحيح مما شابه جرّاء الإسرائيليات التي خالطته على مر العصور.

كلامنا من باب قولة الحق التي يفرضها ديننا حتى على النفس؛ وهي، أولا وآخرا، كلمة السواء التي لا إيمان دونها؛ فبها يكتمل الدين السوي، إذ هي اليوم الجهاد الأكبر، الوحيد الذي بقي واجبا، وهو الاجتهاد، ما لا ينتهي في دين يتجدد على الأقل على رأس كل قرن. إنها «النشأة المستأنفة» بالمعنى الخلدوني، لدين أزلي التعاليم هو اليوم في زمن ما بعد الحداثة، الدين ما بعد الحداثي: الإسَلام (أي السلام كلّه) أو إسلام ما بعد الحداثة.  

 وقيل الحق يفرض الموضوعية في الدرس والتمحيص لاعتماد العقل والمنطق، وهما مناط الدين الإسلامي؛ رغم ذلك، غاب هذا عن الأذهان إذ فُرضت عليها قراءة معيّنة له ليست ضرورة الأفضل ولكنها هي التي كرسها التاريخ باسم إجماع الأمة، ولو أنه إجماع مفروض بشوكة الحاكم.

اليوم؛ ما الذي يمنع من تجديد الفقه الإسلامي والتشريع الحالي ؟

ولا مجال لدوامه هذه الحال لأنّ سنّة الحياة التطور والتغيّر؛ فكل شيء يتحول، ولا يدوم إلا وجه الله. لذا، حان الوقت للعودة إلى ما ميّز الدين الإسلامي الحنيف، ألا وهو هدم الطواغيت والأصنام؛ وهي اليوم معنوية، باسم فقه لعله صلح لزمانه إلا أنه لم يعد صالحا اليوم ولليوم. فما الذي يمنع من تجديد الفقه الإسلامي والتشريع الحالي، وقد ثبت تغلغل العديد من الإسرائيليات فيه، ناهيك الفهم الخاطئ الذي زاغ عن مقاصد الشريعة؟ كيف لا نقوم بذلك على عجل فنفعّل دون تأخير آلية الاجتهاد التي نسيناها أو تناسيناها؟

نحن، في هذه اليوميات، لا نأتي إلا بتذكرة لما ثبت من أخلاقيات الإسلام وثوابت حضارته، لا ببدعة مما لم يعرفه ديننا وأهله ممن لم يحرّفه أو يزيغ عنه؛ فإن بدا كلامنا للبعض من الابتداع، فهو دون أدنى شك بالمعني اللغوي للكلمة، أي إنشاء الشيء والابتداء فيه؛ وطرحنا لا يخص حتما المضمون، بل الشكل وحده، إذ لا نأتي بأي جديد بخصوص المضمون ممّا يعرفه كل مسلم حق، وإن سها عنه.

وإننا هنا، وفي طروحاتنا، لا نأتمر إلا بقول العلي القدير، فأمره هو التجلّي للنيّة الدينية الخالصة «وذكّر…!». فلا شك أن واجب التذكير من الجهاد اليوم، الجهاد الحقيقي، الأكبر، إذ الجهاد الأصغر ولّى وانقضي، فلا جهاد اليوم إلا مجاهدة النفس؛ وهل أهم من تذكيرها وتذكير الناس – ولا عيش لابن آدم بدونهم ووسطهم – بما يسهون عنه؟

ذاك هو الاجتهاد المستدام الذي يحفظ دين الحنيفية المسلمة من الغربة فيجعله دين كل زمنٍ راهنٍ، لجدّته وتجدده. وتلك هي الشهادة الحقة في الإسلام، أي الإتيان بالخبر القاطع؛ لا دعوى شهادةٍ بالموت، بل بالحياة لقران القرآن، أي  الإصداع بكلمة الحق، خاصة في هذا الزمن الذي أصبح للباطل فيه ادّعاء الحقيقة؛ ولعمري هذا من تلبيس إبليس وتبليسه! 

بذلك يكون الإسلام كلمة العدل في زمن اللاعدل، أي الإيمان الصحيح، وهو في كلمة السواء. فما دين القيّمة إن لم يكن هذا الكلام السوي لأجل سبيل سوية، هي محجّة الله وعباده الأخيار؟     

أ – هذا من الجهاد الأوحد اليوم، الجهاد الأكبر

إننا، في زمن اللخبطة القيمية الذي نعيشه، نُسيء لديننا بدون أن نعلم، إذ نجعل تعاليمه السمحة سمجة، خابطين خبط عشواء في أهم ما تفتّق عنه ديننا الحنيف، أي إناسته؛ فكان سبّاقا للأخذ بمنظومة حقوق الإنسان قبل أن تفرض نفسها في الحياة المدنية للناس. ذلك أن للدين الإسلامي هذا الجانب المدني الذي ينضاف للجانب الديني، وهو صفته كمعاملات، أي كدنيا، علاوة على كونه دين وملة. فليس الإسلام مجرّد شعائر، إذ هو أولا وقبل كل شيء ثقافة.

وثقافة اليوم هي تنمية الأحاسيس في النفس البشرية وهي دوما أمّارة بالسوء؛ ويكون هذا بتنمية المشاعر السنيّة بالاعتماد على عقل حسّي، حسّاس، لا يكتفي بالمجردات الديكارتية التي مكّنت من حداثة الغرب، بل يعتمد أيضا على فتوحات المعرفة في ميادين تجاهلها العلم طويلا، كميدان النفس واللاشعور والمتخيّل.

كل هذا اليوم من الجهاد الأكبر الذي دعا إليه الإسلام، فكان سبّاقا إلا حداثة قبل الحداثة الغربية، مكوّنا ما دعوته بالحداثة التراجعية. ولا شك أن الجهاد الوحيد الحلال في يوم الناس هذا ليس إلا الجهاد الأكبر، وكل ما عداه من الإجرام والإرهاب لانتفاء الإرادة الصالحة منه وهي لب لباب الجهاد.                        

فالمسلم، تماما ككل بشر، مدني بطبعه، أي يعيش مع غيره ولأجله وبه. فليس له أن يفرض دينه على أحد، قبل أن يفرضه على نفسه. ثم هو إن فرضه على غيره، فلا يكون ذلك بغير المثل الأسنى، لا بالقوة والعنف. هذا هو إسلام اليوم، الإسلام الما بعد حداثي!

وفي هذا الإيمان الإسلامي، الإرادة الصالحة عند المؤمن، خاصة المسلم العربي، هي الإرادة التي لا تناقض ذاته المتطلعة للحرية؛ أما إن هي ناقضتها، فهي طالحة وإن كانت فعليا صالحة من زاوية غير ذاتية. ذلك أن الحرية ليست قيمة ذاتية بالنسبة إليه، بل شائعة بين الناس، متقاسمة بينهم، لكل الحرية في إرادة الحرية. وهذا توجه سليم إذ يذكّرنا بالتعريف المعرف للحرية، أي تلك التي تقف عند حرية الغير، فلكل حريته.   

وكما كتب محمد حسين هيكل في «حياة محمّد»: «تقوم الحضارة الإسلامية على أساس هو النقيض من أساس الحضارة الغربية؛ فهي تقوم على أساس روحي يدعو الإنسان إلى حس إدراك صلته بالوجود ومكانه منه قبل كل شيء. فإذا بلغ من هذا الإدراك حد الإيمان، دعاه إيمانه إلى إدامة تهذيب نفسه وتطهير فؤاده، وإلى تغذية قلبه وعقله بالمبادئ السامية: مبادئ الإباء والأنفة والأخوة والمحبة والبر والتقوى. وعلى أساس هذه المبادئ ينظّم الإنسان حياته الاقتصادية…».

وهو يضيف: «خلّف محمد هذا الميراث الروحي العظيم الذي أظل العالم ووجّه حضارته خلال عدة قرون مضت، والذي سيُظله من بعد ويوجه حضارته حتى يتم الله في العالم نوره… ولئن قامت هذه الحضارة الإسلامية على أساس من قواعد العلم وهدى العقل، واستندت في ذلك إلى ما تستند إليه الحضارة الغربية في عصرنا الحاضر؛ ولئن استند الإسلام من حيث هو دين إلى التفكير الذاتي، وإلى المنطق التجريدي (الميتافيزيقي) – إن الصلة مع ذلك وثيقة بين الدين ومقرّراته والحضارة وأساسها. ذلك بإن الإسلام يربط بين التفكير المنطقي والشعور الذاتي، وبين قواعد العقل وهدى العلم، برابطة لا مفرّ لأهله من البحث عنها والاهتداء إليها ليظلوا مسلمين وطيدا إيمانهم.»

إلا أن كل هذا، كما يقول أيضا، مرتهن بما ميّز الإسلام عما سبقه في الدينين التوحيديين، أي «أنه لم يعرف شيئا اسمه الكنيسة أو السلطة الدينية على نحو ما عرفت المسيحية. فليس لأحد من المسلمين، ولو كان خليفة، أن يفرض أمرا على الناس باسم الدين، وأن يزعم أنه قدير مع ذلك على الغفران لمن خالف هذا الأمر. وليس لأحد من المسلمين، ولو كان خليفة، أن يفرض على الناس غير ما فرضه الله في كتابه. بل المسلمون أمام الله سواسية، لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى.» 

وإلى يومية الغد وفيها الفصل (ب) والفصل (ج) حول أنّ طرحنا من الاجتهاد اللامنتهي لدين متجدّد، وأنه كلمة السواء، الإيمان الصحيح. 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.