الرئيسية » حراك 25 جويلية 2021 في تونس أو الحقد على الديمقراطية

حراك 25 جويلية 2021 في تونس أو الحقد على الديمقراطية

بعض ردود الفعل السلبية إزاء الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيد في تونس يوم 25 جويلية 2021 تكشف لدى النخبة النظامية الشرعانية المتعالية بكلّ تفريعاتها (المثقفاتية، السياسية، القانونجية، الخ.) خوفا مرضيا من الشعب و احتقارا طبقيا للفئات المحرومة والمنسية من آلة الانتاج و التوزيع الرأسمالية غير العادلة.

بقلم د. حسين الباردي

أخيرا استجاب الرئيس التونسي قيس سعيّد ليلة 25 جويلية 2021 (الموافق لعيد الجمهورية التونسية والذكرى الثامنة لاغتيال الشهيد محمد البراهمي) للمطلب المصيري والملح الذي ما فتئت تنادي به الجماهير الشعبية قصد إيقاف المهزلة المكلفة جدّا للتونسيات والتونسيين سواء كان بالنظر إلى العدد المهول لضحايا جائحة كوفيد 19 (تقريبا 200 وفاة يوميّا) المتسبب فيها تهاون الحكومة واستهتارها بحياة المواطنين، وهو ما يجب أن يحاسب ويحاكم عليه الفريق المُقال، فالقضية تتعلق، على أقلّ تقدير، بجريمة عدم تقديم المساعدة من طرف من هو مدين (السلط) لمن هو دائن (الشعب) وفي أمس الحاجة إليها لارتباطها (المساعدة) بالحياة أو الموت؛ أو كان ذلك بالنظر إلى التفقير اللامتناهي للطبقات والشرائح الاجتماعية الأكثر خصاصة وهشاشة، فضلا عن تدمير الاقتصاد وتبديد المالية العمومية والتشجيع على الفساد والإرهاب والبلطجة… وبعبارة واحدة العجز الفادح عن إيجاد الحلول للأزمة العضوية التي يتخبط فيها المجتمع التونسي والشعب والدولة وأجهزتها ومؤسساتها منذ ما لا يقل عن عقد كامل.

تجاوز العفونة السياسية التي لم يعد لانحطاطها قاع

إن الخراب الرهيب الذي وصلت إليه تونس اليوم وانسداد الوضع والآفاق كليّا لهو الحصيلة الكارثية للعشرية المهدورة التي سيطرت طيلتها الحركة الإخوانية التونسية على مفاصل الدولة وجل أجهزتها في إطار تحالف رجعي سياسي-اقتصادي-مالي-اعلامي لقوى الثورة المضادة المدعومة خارجيّا والتي تمكنت نسبيا من إرساء ما ينبغي تسميته بالنظام الهيمني (بالمعنى الغرامشي) الإخواني المتبرقع بــ”التوافق” المغشوش و”الوسطية” الكاذبة اللتان هما احدى ركائز إيديولوجية المحاصصة واقتسام الغنيمة-تونس بين مكونات الخندق الرجعي اللاوطني.

“حركة 25 جويلية” جاءت – على الأقل من الناحية المبدئية – من أجل تجاوز هذه العفونة السياسية (والسياسة هي اختزال لكل الحقول الأخرى) التي لم يعد لانحطاطها قاع، وتحرير الغالبية العظمى من بنات وأبناء الشعب التونسي من الأغلال اللامرئية المفروضة عليهم من طرف عصابة تجار الدين الجشعين ولصوص الاستثمار السياسي في بؤس الفقراء، اثنان ثالثهما ائتلاف الدواعش المندسين في الجحر البرلماني، وذلك بالاعتماد على تأويل واسع وخلاق لمادة الفصل 80 من دستور 2014 (المفخّخ تعريفًا) المنظم للتدابير الاستثنائية المناطة بعهدة رئيس الدولة في حالة الخطر الداهم، وهو الفصل الوحيد الذي أُخِذ حرفيا من الدستور التونسي الأول. ولقد تُرجم ذلك بثلاث قرارات مفصلية: تجميد مجلس “نواب الشعب” الذي أزكمت رائحته الأنوف؛ إقالة رئيس الحكومة ووزرائه الذين يتنازعون أسفل درجات الكفاءة وأعلى درجات التملق والاستهتار؛ وتقلّد رئيس الدولة رئاسة النيابة العمومية المصابة لحدّ الآن بالشلل.

لن نضيع وقتنا في مناقشة مدى دستورية الاجراءات الاستثنائية

لن نتوقف هنا عند تداعيات هذا الثلوث الإنقاذي، كما أننا لن نضيع وقتنا الثمين في مناقشة مدى دستورية أو لادستورية هذه القرارات الإجرائية الحبلى بالدلالات المضمونية الإصلاحية التي تستجيب مبدئيّا لتعطّش الشعب التونسي للعدالة والمساواة أمام القانون والكرامة ومقاومة الفساد… أما ما يستوقفنا في هذه اللحظة الفارقة فهو الدلالات الخفية أو ان شئتم التحتية المتعلقة بالسياسي والديمقراطية وعلاقة كلاهما بالشعب من جهة والنخب من جهة أخرى.

بالنسبة لكارل شميت (مفهوم السياسي، بالفرنسية، ص. 63 إلى 66) السياسي يتمثل في التمييز بين الصّديق والعدوّ، ما يمكن التعبير عنه أيضا بالتمييز بين الـ”نحن” والـ”هم”. ومرّة أخرى لن نتوقف عند تورّط هذا المنظر السياسي العبقري مع النظام النازي، وسنكتفي في هذا الإطار الضيق بالتذكير أن الحكمة ضالتنا أنّا وجدناها أخذناها حتى لدى أعدائنا أو ألدّ خصومنا (ولقد ناقشنا عرضيّا هذا الاحتجاج الواهي في كتاب سيصدر لنا قريبا بعنوان “الشعبوية من منظور مغاير – من أجل تثوير الثورة”). كما أن السياسي بحسب الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيار هو اختراق “من ليس لهم نصيب” للفضاء العام من أجل فرض وجودهم ككيان مستقل وكفاعل سياسي جمعي لحدّ تلك اللحظة مغيب (“اللاتفاهم”، بالفرنسية، ص. 25 وما يليها).

وعليه فإن ما حصل في تونس يوم/ليلة 25 جويلية هو تأسيس للسياسة بأتم معنى الكلمة المناقض لفهم النخبة النظامية المهيمنة سواء كانت في الحكم أو المعارضة أو خارجهما على الهامش. وقد تجسّد ذلك من خلال الاقتحام الصاعق للفضاء العام (المستعمر/المسترذل من قبل الــ”هم”) من طرف “من ليس لهم نصيب” في إدارة الشأن العام، والسلطة، والثروة وصنع القرار، وتقرير المصير، الخ.، المغيبون الذين لا يسمح لهم بـالحضور/الظهور إلا مرّة كل خمس سنوات من أجل “اختيار ممثليهم”، فهم “قُصّر”، “جهلة”، “أغبياء”، “متهوّرين”…، أعجز من أن يميّزوا الغث من السمين، الصالح من الطالح، ولذلك وجب عليهم تفويض أمرهم ومصيرهم لمن هم أدرى وأعقل وأذكى وأثقف منهم، السادة والسيدات النواب الأشاوس الذين يعرفون مصلحة الشعب أفضل من الشعب نفسه…

فالشباب الثائر يوم 25 جويلية 2021، المنسي والمنبوذ من قبل الحكومات المتعاقبة منذ 2011 – الثابت فيها النهضة الإخوانية والمتحول حلفاؤها العابرون – قد نجح، حيث أخفقت كل المعارضات، في نقل “الشعب” من مستوى الوجود بالقوة إلى مستوى الوجود بالفعل في سويعات قليلة جسّد خلالها ميدانيا اكتساح المغيبون للفضاء العام وفرض التمييز الواضح وضوح الشمس في كبد النهار بين “الصديق” و”العدو”، الـ نحن والـ هم، و فرض وجود من لا نصيب لهم في واقع الرداءة والمحاصصة والشعوذة والاحتيال ؛ الأول يتمثل في كل ضحايا النظام الهيمني القائم، والثاني ليس غير “الجلاد” الإخواني الجاثم بفساده وإجرامه وعنجهيته على صدور الأغلبية الساحقة من التونسيات والتونسيين. فرمزية حرق علم الحزب الإخواني واستبداله بالعلم التونسي في كل مقرات “العدو” التي اكتسحها الشباب الثائر لهي خير دليل على عمق وعي المنتفضين ووطنيتهم العالية في مواجهة العمالة و”الاستبداد الديمقراطوي” المفبرك دستوريّا على القياس.

النخبة الأرستقراطية المتعالية الحاقدة على الشعب

وإن ما يسمّى في لغة النخبة النظامية “الانفلات الشعبي” هو في واقع الأمر أحد أرقى أشكال التعبير الديمقراطي الأصيل والصميمي لجهة اقترابه أكثر ما يمكن من “حكم الشعب من وإلى الشعب”، الذي قال في شأنه الباحث وأستاذ العلوم السياسية الكَنَدِي فرانسيس دوبوي داري (في كتابه : “الديمقراطية التاريخ السياسي للمصطلح في الولايات المتحدة و فرنسا”) أنه (أي مصطلح الديمقراطية) “حافظ على معناه الأصيل طيلة أكثر من ألفي عام، منذ زمن الإغريق إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر، وهي الألفيتين التي ارتبط طوالها معنى الديمقراطية بحكم الشعب لنفسه وبنفسه بدون سلطة فوقية تفرض عليه إرادتها أو تجبره على الخضوع” (ص. 9). وليعلم القارئ أن الانقلاب الذي طرأ في النصف الثاني من القرن 19 حصل بعد أن “بلورت النخب السياسية المالكة مفهوم الديمقراطية العصرية (أي النيابية) بغاية الاستئثار بالسلطة على حساب الشعب “الجاهل”، “العنيف”، “اللاعقلاني”، والذي لو ترك الأمر بين يديه لآل إلى الفوضى العارمة السياسية والاقتصادية والأخلاقية، وتلك هي الطامة الكبرى…”. ولقد استتب الأمر لهذه النخبة الأرستقراطية المتعالية الحاقدة على الشعب/”الرعاع” منذ ذلك التاريخ إلى يوم الناس هذا.

ومن جهته فقد لخّص جاك رانسيار بوضوح ناصع ودامغ في الآن موقف “الآباء المؤسسين” من الديموقراطية وعلاقتها بالرأسمالية المسلّم بها تسليما في تونس كما خارجها، حيث قال في حوار *أجراه معه جياني كارتا: هناك الليبرالية هو في الواقع إلى حد كبير تقليد غير ديمقراطي. فالآباء المؤسّسون لم يؤسسوا الديمقراطية ولكن وضعوا دستورا يضمن تضييق سلطة الشعب، بحيث تبدو السلطة وكأنها ملك الجميع، ولكنها في الواقع محتكرة من قِبل المستنيرين والمتعلمين. وفي أذهانهم، بطبيعة الحال، فإن المستنيرين والمتعلمين هم المالكين الذين أثبتوا قدرتهم على إدارة ممتلكاتهم، وبالتالي فهم الأقدر على التفكير في وضع المِلكية في قلب المجتمع. هنالك تقليد ليبرالي مرتبط بإيديولوجية المِلكية الأنجلو-سكسونية والتي هي في الواقع ليست تقليدًا ديمقراطيًا على الإطلاق ولكنها نجحت بطريقة ما في تكريس مشروعها المتمثل تحديدا في إخضاع الديمقراطية، من حيث هي سلطة الجميع. كان هدفهم إنشاء حكومة من النخب والأثرياء ومن بعد ذلك من العلماء والمفكرين والخبراء، ومن ثمّ انتهى الأمر إلى تسمية هذه الحكومة بـ "الديمقراطية". هنا تكمن المشكلة. وهذا هو مصدر التوتر بين الفكرة الديمقراطية وتلك الحكومات التي تسمي نفسها ديمقراطيات والتي هي ليست إلاّ نتاج المسار التاريخي”.

حول التناقض الجوهري بين الرأسمالية والديمقراطية

“هنالك تناقض جوهري بين الرأسمالية والديمقراطية. وإن ما يسمى بالتقاليد الليبرالية هو في” الواقع إلى حد كبير تقليد غير ديمقراطي. فالآباء المؤسّسون لم يؤسسوا الديمقراطية ولكن وضعوا دستورا يضمن تضييق سلطة الشعب، بحيث تبدو السلطة وكأنها ملك الجميع، ولكنها في الواقع محتكرة من قِبل المستنيرين والمتعلمين. وفي أذهانهم، بطبيعة الحال، فإن المستنيرين والمتعلمين هم المالكين الذين أثبتوا قدرتهم على إدارة ممتلكاتهم، وبالتالي فهم الأقدر على التفكير في وضع المِلكية في قلب المجتمع. هنالك تقليد ليبرالي مرتبط بإيديولوجية المِلكية الأنجلو-سكسونية والتي هي في الواقع ليست تقليدًا ديمقراطيًا على الإطلاق ولكنها نجحت بطريقة ما في تكريس مشروعها المتمثل تحديدا في إخضاع الديمقراطية، من حيث هي سلطة الجميع. كان هدفهم إنشاء حكومة من النخب والأثرياء ومن بعد ذلك من العلماء والمفكرين والخبراء، ومن ثمّ انتهى الأمر إلى تسمية هذه الحكومة بـ “الديمقراطية”. هنا تكمن المشكلة. وهذا هو مصدر التوتر بين الفكرة الديمقراطية وتلك الحكومات التي تسمي نفسها ديمقراطيات والتي هي ليست إلاّ نتاج المسار التاريخي الذي أدّى إلى تثبيت اخضاع الديمقراطية.”

وهل من دليل أكثر اقناعا على حصافة هذا القول من سقوط البرلمان التونسي سقوطه المدوي منذ اللحظة الأولى التي استهلّ فيها “أشغاله” (أي تهريجه الركيك وسلسلة خياناته الموصوفة وبيعه السيادة الوطنية في سوق النخاسة العالمية) ساعة انتخب راشد الخريجي الغنوشي، زعيم الطغمة الإخوانية التونسية، رئيسا لما يتشدقون زورا وبهتانا بتسميته “مجلس نواب الشعب”؟ الشيء معلوم بتفاصيله لدى القاصي والداني ولا داعي لتحريك البراز… ثم بعد كل ذلك يهزأ الهازئون ممن قال صادقا بأن “التمثيل تدجيل”… ألا يعلم هؤلاء بأن 74 في المائة من الناخبين الفرنسيين قاطعوا انتخابات المقاطعات (الكونتونات) في أواخر شهر جوان 2021، بسبب افلاس الطبقة السياسية بأكملها حكومة ورئاسة وبرلمانا التزمت أغلبيته الماكرونية النيولبرالية، كتابيا منذ الجلسة الأولى، بالتصويت ايجابيّا على كل مقترحات الحكومة… نفس البرلمان الذي نقض نتيجة الاستفتاء الذي رفض بمقتضاه الشعب الفرنسي سنة 2005 مشروع الدستور الأوروبي الليبرالي واللاديمقراطي واللااجتماعي، بأن صوت النواب لصالح معاهدة لزبون التي هي الاسم الآخر لمشروع الدستور إياه. ألا يعلم هؤلاء بما حصل في اليونان بعد الاستفتاء حول سياسة التقشف المملاة من طرف الترويكا والتي رفضها اليونانيون بأغلبية ساحقة، فما كان من رئيس الحكومة تزيبراس إلا أن قام بتمرير قانون بالبرلمان يقبل بالإملاءات إياها تحصل بمقتضاه وبسهولة مذهلة على أغلبية مطلقة مناقضة كليّا لإرادة الشعب الصريحة… وهل تذكرون قانون تبييض الفساد الذي حاكه “الشيخان” وشرّعته أغلبيتهما؟؛ وبالقرب منا زمنيا قانون تبييض الأموال والفاسدين وتمويل الإرهاب المسمّى بعظمة وجلال “قانون الإنعاش الاقتصادي وتصفية مخالفات الصرف”؟ بإمكاننا الاستمرار في عرض الأمثلة تلو الأخرى عن غدر النواب المتكرر بناخبيهم وتنكرهم بصفاقة لإرادة الشعب الصريحة ولكن نفضل اختصار الطريق علينا وعلى القارئ بالتذكير بما قاله العفيف ماكسيميليان روبسبيار في خطاب ألقاه يوم 29 جويلية… 1792: “إن مصدر كل مآسينا هو الاستقلال المطلق الذي منحه النواب لأنفسهم في مواجهة الأمّة دون استشارتها. لقد اعترفوا بسيادة الأمة ثمّ أبادوها. وهم كانوا، باعترافهم الخاص، مجرد وكلاء عن الشعب، ولكنهم جعلوا من أنفسهم أصحاب السيادة، أي مستبِدِّين، لأن الاستبداد ليس سوى اغتصاب السلطة السيادية”.

من أجل مطابقة الإرادة السياسية الجريئة مع إرادة المنبوذين المقهورين

هذا بالضبط ما حصل في تونس منذ 14 جانفي 2011، وبالتحديد بداية من يوم 15 مارس من نفس السنة عندما لملمت النخبة الحقوقية والسياسية والنقابية والثقافية بـ “شخصياتها الوطنية”، الخ.، شتاتها ونصّبت نفسها ممثلا عن الشعب التونسي وثورته في إطار “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي” (لماذا الاختصار في التسمية والإطالة ممكنة) المعروفة بـ “هيئة بن عاشور” (عياض) اللادستوريّة، ذات الفقيه “الأرستقراطي” الذي أتحفنا في اليوم الموالي للخامس والعشرين من جويلية برأي قانوني قاطع بتّار يفتي بانقلابية ما أقدم عليه قيس سعيد، أي استجابته للمطالب المصيرية والمشروعة والملحة لعموم الشعب التونسي في الانعتاق والتحرر من قبضة الطغمة الرجعية الحاكمة.

وعليه فنحن نزعم أن هذا الموقف المُدين والمندّد بتناغم وتطابق الإرادة السياسية الجريئة للذي يحتل موقع القرار مع إرادة المنبوذين المقهورين، وهم الأغلبية الساحقة، وتوقهم للانعتاق من سطوة الإخوان المجرمين وحلفائهم، لم يفاجئنا بتاتا نظرا لكون أصحابه (بفعل الانحراف المهني القائم على العقلانية الإجرائية) يُعلون النصوص على النفوس، والدساتير على مصير الجماهير؛ في البدء كان الكلمة، والكلمة هي الدستور، والدستور مقدس يعلو فوق الجميع بما فيه صاحب السيادة (إنجيل يوحنّا، بتصرف) …

ثمة حقًّا شيء عفن في مملكة الدانمارك التونسية. ليست لنا مشكلة مع بن عاشور في حدّ ذاته (فالرجل كتب أشياء قيمة ومهمة) ولكن مشكلتنا مع معشر “الدستورجية” الشكلانيين و”الحقوقجية” المنبتّين الذين باضوا بسرعة الضوء الحوارات والبيانات المنددة بـ”الانقلاب” الفظيع الذي أقدم عليه، مع سبق الإنذار، ذاك الشعبوي “المعتوه” الذي “يريد تعلّم الحجامة (الحلاقة) في رؤوس اليتامى”، وهم ممتلئين يقينا بأنهم يستبقون – بموقفهم التاريخي الذي يأملون أن يصار غرّة في جبين الدهر – المنظمات “غير الحكومية”/الحكومية و”الديمقراطيات العريقة” في التشهير بـ”عودة الاستبداد” وانتكاسة الحرّيات وارتداد مسخ الديمقراطية (عفوًا، المسار الديمقراطي) التي بحمدها يسبّحون صباحا مساء.

المعذرة يا “أهل الحل والعقد” فإننا لتوّنا عائدون القهقرة “كِيمَا كنّا قْبَلْ الانقلاب” وسنصبر ونصابر على أذى اللصوص والمشعوذين (ألم نصبح كلنا “أيّوب” زمن بورقيبة وبن علي) حتّى ترضوا عنّا وإلى حين تتفضلوا سيادتكم بتحريرنا بقوّة تأويلاتكم الدستورية الوفية لللفظ كما الروح، وتضيؤوا لنا طريق الانعتاق بنور بياناتكم الحقوقية… وكما يقول الشاعر الفلسطيني في ما معناه : موتوا، احترقوا… ستصلكم منا البرقيات… مئات إثر مئات… فالمد البرقي [الحقوقي] العربي، [الفرنسي، الأمريكي] العاقل… آت، آت (بتصرّف).

إن النخبة النظامية الشرعانية المتعالية بكلّ تفريعاتها (المثقفاتية، السياسية، القانونجية، الخ.) تشترك جميعها مع “الهُمْ” في الخوف من الشعب. ذاك الخوف الذي يتخذ لديهم شكل رهاب الخلاء، الأغورافوبيا السياسية (فرانسيسس دوبوي داري، الخوف من الشعب: الأغورافوبياوالأغورافيليا السياسسية، لوكس، 2016)، دون أن يتجرؤوا على مهاجمة صاحب السيادة (الشعب) مباشرة، على طريقة غوسستاف لوبون في كتابه الحاقد “بسيكولوجيا الجماهير” مثلاً، ولكن عبر التهجم العنيف على من يدافعون عن الشعب وينحازون دون قيد أو شرط إلى جانبه. هؤلاء هم في نظر النخبة النظامية “شعبويون”، وهي الوصمة التي ما بعدها وصمة، أي أنهم – بحسب الفهم السائد لدى “صفْوة القوم” – يسايرون عواطف الجماهير ونزواتها (ما يُسمِّيه باروك سْبِينُوزَا في الإيتيقا “الغِوَايَات الكئيبة) ويغازلون الحسّ الشعبي، قصْد الوصول إلى السلطة بأسهل الطرق وأسرعها، دون الاعتداد بإكراهات الواقع التي من واجب السياسي “المسئول” (وقيس سعيّد عكس ذلك “طبعًا”) أن يراعيها، بل أكثر من ذلك أن يتقيّد بها. غير أن “الزعيم الشعبوي” في صورة الحال هو بعدُ في الحكم ولم يغازل الشعب بقدر ما التقط رسالة الشباب الثائر يوم 25 جويلية وفك شفراتها ثم اتخذ تباعًا الإجراءات الراديكالية المتسقة مع إلحاحيّة المطالبة الجماهيرية بالتغيير. كان ينبغي على قيس سعيّد أن “يتحلّى بالمسؤولية” من وجهة النظر النخبوية النظامية (الدستورجية/الحقوقجية) ولا ينساق وراء “الدهماء” فهي بطبعها غرائزية، هدّامة ولا تراعي مثلا الترقيم والترتيب الائتماني للدولة التونسية التي، إن كنتم لا تعلمون، تمرّ بظروف صعبة للغاية، الخ، الخ… وبعبارة أخرى ينبغي انقاذ الدولة من تهوّر مواطنيها، وإنقاذ الدستور من التأويل “اللادستوري” المطابق لمصلحة الشعب ومصيره… وإن اقتضى الأمر، وهذا لسان حالهم، لا ينبغي التردد لحظة واحدة في الأخذ بنصيحة الرائع برتولد بريشت، حين كتب متهكما:

الشعب لا يلومنّ إلا نفسه”

على فقدانه ثقة الحكومة

ولن يستعيدها إلاّ بجهد جهيد

أليس من الأفضل للحكومة إذًا

أن تحلّ الشعب

وتنتخب آخراً مكانه؟”

في انتظار استرجاع الشعب سلطته وسيادته كاملة وممارسته الديمقراطية الحقة

وفي الختام لا يسعنا إلا التأكيد على أننا بصدد عيش لحظة فارقة ومناسبة نادرة التقت فيها، بدون وسائط، إرادة الشعب بإرادة الحاكم الصالح الوافد من خارج المنظومة الأوليغارشية (النخبوية) التي كانت تعتقد أنه عديم الصلاحيات ولا حول له ولا قوة مقارنة بجبروت البرلمان وتغوله، ولمّا صمد الرجل في وجهها بواسطة تفعيل الآليات النادرة التي يتيحها عرضيّا الدستور الأعرج، شنوا حينها ضدّه حرب تكسير العظم وأطلقوا العنان لذبابهم الأزرق القذر وأبواقهم “الائتلافية/الداعشية” الناعقة يسبّون ويشوهون ويتطاولون في “مأمن” عن الحساب والعقاب بفضل “الحصانة البرلمانية” التي يوفرها لهم دستور “الهدّة والكدّة” وعباءة سيدهم الشيخ التي تتسع لكل الأوغاد، إلى أن انقلب السحر على الساحر برقمين اثنين لا ثالث لهما: صفر وأمامه ثمانية ؛ عدد مرشح لمستقبل فيتيشي باهر لدى المتطيرات والمتطيرين…

هل يعني هذا أننا أسلمنا أمرنا بين يدي “المنقذ”، رفيق “المتسخين” و”المنبوذين”؟ كلا وألف كلاّ، فنحن لا نؤمن بغير الشعب منقذا لنفسه بنفسه، ولسنا ممن يعطون الشيكات على بياض. قيس سعيد أرهف السمع وأنصت للشعب، بعكس النخب الصمّاء، الثرثارة والعمياء، وجسّد رجع الصدى في شكل قرارات استثنائية ستفتح له باب التاريخ على مصراعيه، شريطة أن يستمر في الإصغاء ولا ترتعش يداه في فعل الذي يجب، والشعب سيسنده ما ثبت على نهج الحرية والعدالة الاجتماعية والبيئية والجهوية ودافع على الكرامة الوطنية والسيادة الشعبية التي أقرها دون أن يقرها الفصل 3 من الدستور الذي تعرفون: السيادة ملك الشعب، يمارسها عبر نوابه أو بواسطة الاستفتاء (الذي هو نقل حرفي نيوكولونيالي للفصل 3 من الدستور الفرنسي…) والكل يعلم كيف أَفرَغت الإجراءات الدستورية هذا المبدأ من محتواه، لذلك وجب قلب المراتبية المنحازة للتمثيل على حساب الإرادة الشعبية المباشرة بتقديم الأخير على ما سبقه، بحيث يصبح الاستفتاء المبدأ والتمثيل الاستثناء، إلى حين يسترجع الشعب سلطته وسيادته كاملة ويمارس ديمقراطيته الحقة المتعارف عليها طيلة ما لا يقل عن ألفي سنة قبل أن ينقلب المنقلبون ويلتفوا عليها بواسطة الدجل النيابي الذي يسميه ماركس “المرض العضال للحماقة البرلمانية” (الـ18 من برومر لويس بونابارت، النسخة الفرنسية، ص. 154).

قابس، 30 جولية 2021.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.