الرئيسية » الخروج الرّحيم من الثورات العربية

الخروج الرّحيم من الثورات العربية

 آثار الحرب في ليبيا

بقلم الدكتور محمد الحدّاد*

الثورة ليست غاية في ذاتها، وإنما هي حالة انفجار تحصل عندما تتعذّر سبل الإصلاح. والثورة الناجحة هي التي تتحوّل إلى برنامج إصلاح حقيقي، وتحقّق التطلعات التي كانت تحلم بها الشعوب الثائرة، أو بعضها على الأقل، ولا تبقى في مستوى الشعارات واللغو.

ماذا كانت تطلعات الشعوب في البلدان الخمسة للثورات العربية؟ بالتأكيد ليس الانتقام لمقتل الحسين ولا إعادة الخلافة ولا تعميم أحكام القطع والرجم وجزّ الرؤوس، وإنما هي تطلعات من صنف ما يتمنّاه البشر جميعاً: العيش الكريم والعمل اللائق والتعليم والصحة وضمان مستقبل الأبناء والعيش بكرامة في الوطن.

قد يكون من باب التعجيز أن نسأل: ماذا تحقّق من هذه التطلعات؟ الأكيد أنه لم يتحقّق شيء، ومن الممكن أن نتفهّم أنّ الإصلاحات تطلب فترات أطول من سنوات خمس هي الفاصلة عن انطلاق تلك الثورات. لكن الإجابة ستكون مخيّبة أيضاً لو طرحنا سؤالاً أكثر واقعية: هل نحن نسير في الاتجاه الصحيح والواعد الذي ستتحقّق معه التطلعات، ولو بعد فترة طويلة؟ فالجواب سيكون بالنفي أيضاً، بل الأرجح أننا نبتعد أكثر فأكثر من المطلوب. وليس المقصود أنّ الوضع في بلدان الثورات العربية كان جيّداً في الماضي، فلو كان كذلك لما حصلت هذه الثورات، لكنه اليوم أكثر سوءاً من ذلك الماضي، وهذا هو عين الخسارة والغبن: أن يموت آلاف البشر ويشرد منهم الملايين وتدمّر أوطان بكاملها ثم لا يتحقّق شيء من تطلعات الشعوب.

ومع ذلك، ثمة طائفتان لن تؤثر فيهما أشلاء الموتى، ولا مناظر الدماء، ولا بكاء الثكالى، ولا يتم الأطفال: أولاهما فئة تجّار الحروب، أفراداً ومجموعات ودولاً، الذين يغنمون من الدمار، وثانيتهما فئة تجار الأيديولوجيات، الذين لا يهمّهم الإنسان، وإنما تهمّهم القضية المتعالية على الإنسان التي يُضحّى به من أجلها. وكثيراً ما يلتقي هؤلاء بأولئك، على رغم تباين المنطلقات، التقاء الضباع بالكواسر حول أشلاء الموتى. ولقد أخذت الأصولية الدينية حالياً مكان الثورجية القومية في الستينات في تبييض الدمار والتبرير للخراب والتعويض عن الفشل بالمزايدة، على رغم ما تجرّه من تاريخ طويل مخيّب بدأ في أفغانستان والسودان والصومال، وبرز مجدّداً مع فشل الإسلاموية الشيعية في حكم العراق بعد الاحتلال، وخيبة «حماس» السنية في وقف معاناة الفلسطينيين، وصولاً إلى الثورات العربية التي استولت عليها الأصولية، بما تسبب إمّا في الفوضى أو معالجة الفوضى بالعودة إلى الاستبداد.

لقد أطلقت الثورات العربية في بداية 2011 آمالاً عريضة وفعلية كان يمكن أن تفتح لعهود جديدة في المنطقة كلها، إما بتنفيذ الإصلاحات الضرورية في بلدان الثورات ذاتها، أو بالدفع إلى الإصلاح في غيرها تجنباً لمصائر مماثلة. هكذا كان يمكن أن تراجع كل المجتمعات نفسها باتجاه ترسيخ المواطنة والمساواة، بعيداً من الطائفية والعنف، وتحقيقاً لمزيد الاندماج في الوطن بين الجميع، أغلبيات وأقليات، ورجالاً ونساء.

لكن يتضح بعد خمس سنوات أن عناصر كثيرة كانت أقوى من هذه التطلعات والآمال، منها الحجم الهائل للفساد الذي لم يتراجع بإطاحة هذا الرئيس أو ذاك النظام، فقد تأكد أنه كان أعمق بكثير من البنية الفوقية التي تجسدها الأنظمة الحاكمة (ترتيب تونس مثلاً تراجع إلى المركز 76 في السنة الماضية، بعد أن كانت في المركز 58 سنة 2010). ومنها غياب البدائل والأطروحات العقلانية وسيطرة آخر الأيديولوجيات الكليانية متمثلة في الأصولية لتعيد مزايدات ثورات الستينات في شكل أكثر عنفاً ودماراً وعبثية. ومنها التدخلات الأجنبية الضاغطة التي حوّلت بلدان الثورات العربية إلى أراض مفتوحة على المشاريع والأطماع الإقليمية والدولية، وربما لإعادة رسم الحدود مع غياب الطرف القويّ الذي يمكن أن يفرض تقسيمات على شاكلة «سايس بيكو» سابقاً.

ستواصل الآلات الإعلامية الرهيبة التي أنشأها تجّار الحرب وأيديولوجيو الدمار التغنّي بربيع عربي موهوم تكذّبه صور الجثث المتناثرة والبناءات المنهارة، وصوت الرصاص والإرهاب الملعلع في كلّ مكان. ولن نواجه هذه الآلات بالحنين إلى الماضي، فلو كان الماضي جيّداً لما أدّى إلى ما نراه اليوم، ولو قبل الحكام السابقون بالإصلاح لما حكموا على مجتمعاتهم اليوم بكلّ هذه المعاناة. وإنما المطلوب أن يتوجه التفكير إلى رؤية واقعية وإنسوية للوضع العربي الراهن، تنطلق مما يمكن تحقيقه في ضوء خيبات السنوات الماضية، ويأخذ في الاعتبار أن الهدف الأول والأخير لكل حركة في التاريخ هو الإنسان، فلا فائدة من انتصار يأتي، إذا أتى، بعد القضاء على البشر، ولا من فكرة، ولو جميلة ونبيلة، يكون ثمنها دمار مجتمع بكامله.

نحتاج اليوم الى التفكير في سبل الخروج الرحيم من الثورات العربية، يحقّق ما يمكن أن يتحقّق، ويتخلّى عن طبقات الأوهام التي ارتبطت بهذا الحدث. لقد انتهت رومانسيات الثورة وما يحصل اليوم هو من قبيل الحروب الأهلية أو أنه تهديد بها، ومثل هذه الحروب تطلب تفعيل آليات العمل الإنساني والوساطة الإخلاقية.

نحسب أن تونس بدأت في الخروج الرحيم من الثورة منذ أن اكتوت بتجربة حكومة «الترويكا»، وقد يكون الاتفاق المطروح حالياً لوقف إطلاق النار في سورية، ومشروع حكومة الائتلاف في ليبيا، خطوتين في الاتجاه نفسه. هذا ما نتمناه على الأقلّ للشعبين السوري والليبي، فلم تعد من فائدة للشعوب في أن تحرق على هيكل الأوهام وصراعات المصالح وتستعمل وقوداً لربيع المغفّلين.

 * محمد الحدّاد: أستاذ الديانات المقارنة بالجامعة التونسية
* نشر المقال في جريدة الحياة اللندنية في 28 فيفري 2015

شارك رأيك

Your email address will not be published.