بقلم احمد الرحموني*
من سخرية الاقدار ان تتحرك السلطات الكندية وتعين تاريخا محددا – هو 31 ماي الفارط – لطرد بلحسن الطرابلسي وترحيله الى تونس في الوقت الذي تتأهب فيه السلطات التونسية “لتنظيف “عدد من رؤوس الفساد والقمع السياسي تحت مظلة “المصالحة الاقتصادية” او “المصالحة الشاملة ” او عن طريق “لجنة التحكيم والمصالحة “.
من الثابت ان السلطات التونسية قد توقفت منذ مدة عن اية تتبعات جدية لتلك الرؤوس المرتبطة بالحقبة الدكتاتورية وكثر الحديث في مقابل ذلك عن طي “صفحة الماضي “وسط ظهور دائم لهؤلاء سواء في وسائل الاعلام او في المناسبات العامة او في الحياة السياسية للبلاد.
لهذا يتجه التساؤل هل مازالت الحكومة جادة في طلب ترحيل بلحسن الطرابلسي تنفيذا لأحكام السجن الصادرة ضده في 27 سبتمبر و 7 ديسمبر 2011 من اجل جرائم متصلة بالفساد والتي لا تقل عن 16 عاما و 11 شهرا اخرها بتهمة حيازة قطع اثرية بمنزله بسكرة ؟.
لابد ان “الجهات المسؤولة “و “احزاب الثورة”و “زعماء المصالحة”و”المبشرين “بها وخصوصا “رائدا المصالحة ” بامتياز السيدان قايد السبسي والغنوشي يعلمون جيدا ما يمثله بلحسن الطرابلسي في ذاكرة الفساد السياسي والتاريخ القريب للثورة التونسية حتى ان السفير الامريكي السابق بتونس ويليام هودسون قد كتب في مراسلة سرية لإدارته سنة 2006 “ان بلحسن الطرابلسي يعتبر العضو الاوسع شهرة والأكثر فسادا من بين افراد الاسرة .فهو يمثل كل ما يمقته التونسيون في الطرابلسية”.
لكن رغم ذلك من الملاحظ ان الاجراءات القضائية المتعلقة بترحيله من كندا الى تونس قد استغرقت وقتا طويلا وعرفت تطورات بارزة منذ عامين تقريبا من ذلك مصادقة القضاء الكندي في جوان 2014 على رفض الحكومة الكندية الافراج على جزء من امواله المجمدة لتمكينه من مواجهة مصاريفه المتعلقة بمنزل على وجه الكراء (في حدود 5000 دولار شهريا) وسائق ومدرسة خاصة لأولاده ورفض السلطات الكندية طلبه في اللجوء السياسي في مارس 2015 – في حين اتجهت الى قبول الطلبات المقدمة من زوجته و ابنائه – بناء على اسباب جدية تبعث على الاعتقاد بأنه اقترف جرائم غش و احتيال ضد الدولة في الفترة الديكتاتورية خصوصا بعد تسريب وثائق سرية تضمنت وجود حساب بنكي في سويسرا مفتوح باسمه خلال سنتي 2006 و2007 ومودع به ما قيمته 22 مليون دولار.وقد ترتب عن ذلك الرفض امكانية ترحيل بلحسن الطرابلسي الى بلده الاصلي.
واضافة لذلك انتهت محاولات بلحسن الطرابلسي للبقاء على التراب الكندي الى رفض القاضي الفيدرالي في ماي 2016 لطلبه الرامي الى وقف تنفيذ قرار الترحيل المقدم من محاميه مع ايراد ملاحظة جوهرية – لكن بالحجم الكبير – تشير الى ان الترحيل يبدو فجأة في حكم المعطل بسبب الغياب المثير لأهم المعنيين بالأمر و هو بلحسن الطرابلسي .
وفي هذا الخصوص اوردت الصحف الكندية ان المعني بالأمر” قد تبخر في الهواء ” قبل ان تنجح وكالة الخدمات الحدودية الكندية في وضعه داخل الطائرة .ومن الثابت انه لم يبد اي تعاون عند انطلاق الترتيبات السابقة لموعد الترحيل طبق ما ورد بالحكم الصادر عن القاضي الفيدرالي.
وبناء على ذلك يتضح ان الاجراءات الاساسية لترحيل بلحسن الطرابلسي قد تولتها السلطات الكندية وان الحكومة التونسية لا زالت مبدئيا متمسكة بطلب ترحيله .لكن يبدو ان السلطة التونسية قد خيرت الامساك عن التعليق بشان الاختفاء المفاجئ لبلحسن الطرابلسي عدا ما صدر عن السفير التونسي بكندا – في تصريح محتشم ودون محتوى للصحافة الكندية – وهو قوله”ان استعادة الثروات المنهوبة من قبل المقربين من النظام السابق تبقى شيئا مهما بالنسبة لنا “.
وربما لا يبدو هذا الاهتمام مجسما بأي وجه في النتائج الضعيفة التي ادت لها السياسة المتبعة لاستعادة الاموال المنهوبة !!!
لكن من الجائزان نتساءل في ضوء ذلك ماذا يمكن ان يمثل بلحسن الطرابلسي هذه الايام : عبئا ام فريسة لهذا المسار الذي يدعى “المصالحة “؟
تشير المعلومات الدقيقة المستمدة من مصادر موثوقة ان الثروة الاصلية لبلحسن الطرابلسي المكونة بتونس تبرز بالمقاييس المحلية الثراء الفاحش الذي انتهت اليه احدى “العائلات الناهبة ” للبلاد اذ تقدر ثروته بألف (1000) مليار مليم وتشمل بصفة اساسية – دون الدخول في التفاصيل -130 مليار (سيولة بالبورصة ) و 4 مليار (سيولة بنكية ) و اكثر من 50 شركة كبرى بلغت مساهمته الغالبة فيها – سواء بصفة مباشرة او غير مباشرة – 50 بالمائة او اكثر من رأسمالها واهم تلك الشركات مجموعة كارتقو واسمنت قرطاج والفا فورد و هنداي و جقوار و لندروفر وسكر تونس ونزل البالاص و كاكتوس وعقارية قمرت (الذي جعلت منه مالكا لجزء كبير من اراضي البحيرة ) اضافة الى مساهمته في البنك التونسي واذاعة موزاييك ونوفال آرزيادة على عدد من الاراضي الشاسعة بمنطقة اوتيك (اين توجد الان استوديوات قناة الحوار التونسي) وكذلك عدد من عقود اللزمة المتعلقة بمراسي الطائرات وخصوصا ملكيته لبنايات وعقارات فخمة (عددها 13)بتونس و سيدي بوسعيد و الحمامات فضلا عن يخت (كارتاقو للترفيه)وعدد من السيارات الفردية (من بينها سيارة مصفحة )او التابعة لمساهمته بالشركات .
ويشار الى ان هذه الممتلكات قد احيلت جميعها للدولة بموجب المرسوم عدد 13 لسنة 2011 المؤرخ في 14 مارس 2011 والمتعلق بمصادرة أموال وممتلكات منقولة وعقارية وان الدولة لا زالت تحتفظ بأغلبية الممتلكات المصادرة باستثناء ما تم التفويت فيه وهي اموال و ممتلكات محدودة وعلى هذا الاعتبار يمكن التكهن بان الثروة الخارجية التي اكتسبها وهربها بلحسن الطرابلسي الى دول عديدة من اهمها سويسرا لا يمكن ان تقل من حيث قيمتها عن الممتلكات التي تمت مصادرتها ان لم تكن تتجاوزها بكثير .لكن يتضح ان تلك الاموال المفترضة – التي تعود مبدئيا الى الدولة التونسية – لازالت في جزء منها خاضعة للتجميد بموجب اجراء جزائي فيدرالي سويسري من اجل الاشتباه في جرائم تتعلق بغسيل الاموال و المشاركة في منظمة اجرامية وتبلغ القيمة الاجمالية للأموال المجمدة – والتي تخص 48 اسما من بينهم بلحسن الطرابلسي- 60 مليون فرنك سويسري اي ما يقابل 121مليون دينار تونسي.وقد سبق للنيابة العمومية بالكنفدرالية السويسرية في اطار اجراءات التعاون التعجيل بتسليم تونس اكثر من نصف المبلغ المجمد الراجع الى بلحسن الطرابلسي استنادا الى ثبوت الطبيعة الاجرامية لمصدر الاموال لكن هذا القرار قد تم الغاؤه من قبل المحكمة الجنائية الفيدرالية بمدينة بيلينزونا بتاريخ ديسمبر 2015 بناء على طلب صادر من بلحسن الطرابلسي و استنادا الى عدم سماعه اثناء النظر في الملف .
ويلاحظ ان الوضع القضائي للأموال المحجوزة لم يتغير بصفة جوهرية عدا ما اذنت به النيابة العمومية بالكنفدرالية السويسرية في اواخر ماي الفارط من تسليم الدولة التونسية – بواسطة الادارة الاتحادية للشؤون الخارجية – مبلغا زهيدا لا يتجاوز 500.000 دينار تونسي (250.000 فرنك سويسري ) ويظهر ان المبلغ المأذون بتسليمه لا يخص الاموال الراجعة لبلحسن الطرابلسي بل يهم احدى الشركات المنسوبة لسفيان بن علي .
ورغم محاولة الحكومة التونسية – بواسطة عدد من المحامين السويسريين – التداخل في الاجراءات الجزائية المفتوحة ضد احد البنوك الذي اخفى جزء من ثروة بلحسن الطرابلسي فلا يتضح ان تلك المساعي ستجد لها نتائج قريبة.
وبناء على ذلك يمكن ان نعتبر ان وضعية بلحسن الطرابلسي وان كانت تقتضي من حيث المبدأ الاذن بتسليمه للسلطات التونسية تنفيذا للأحكام الصادرة بشأنه – وهو ما حصل بعد قرار ترحيله – ربما ستشهد في الايام القادمة – بعد تسليمه بصفة فعلية – تطورات شبيهة بالمسار الذي عرفته التتبعات الجارية ضد سليم شيبوب ومن المحتمل ان يتجه المعني بالأمر الى لجنة التحكيم و المصالحة بهيئة الحقيقة و الكرامة او يضطر الى ذلك او حتى يدفع اليه .لكن هل بقي له – حيال الدولة – ما يفاوض عليه وهي التي حلت محله في جميع الاملاك التي اكتسبها في تونس بطريقة غير مشروعة ؟!وكذلك هل بقي للدولة – حياله – ما ترجوه غير المحاسبة طبق معايير المحاكمة العادلة و تنفيذ الاحكام الصادرة ضده؟!
ربما يقال ان للدولة مصلحة في استعادة اموالها المنهوبة وان للمعني بالأمر مصلحة في “الهروب “الى المصالحة ؟!لكن هل يمكن ان يكون الحل بهذه السهولة بعد رحلة طويلة لم تثمر شيئا؟!
………………………………………………………………………
* رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء
شارك رأيك