الرئيسية » العلمانية كضرورة زمانية

العلمانية كضرورة زمانية

%d8%b3%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%82%d9%85%d9%86%d9%8a

بقلم : سيد القمني

المشكلة الآن ليست تغيير رئيس أو نظام، فهذا الجزء الهين واليسير، لأن تغيير أبطال المسرحية لا يسقطها، المشكلة هي في ثقافة مجتمع ينظر إلى الخلف بحثًا عن الخلاص، في وقت نحتاج فيه إلى النظر للأمام.

وإن التفتنا إلى الماضي فلطلب الأزر الحضاري الوطني المحلي المرتبط ببيئتنا وخريطتنا المناخية والجغرافية والمجتمعية، وليس الديني الوارد من بيئة نقيض بالكامل، وأن يقدم الجميع اعترافًا للجميع بتنوع أصولنا وعناصرنا وألواننا وأصنافنا وأدياننا ومذاهبنا، فالعلمانية كطريقة وأسلوب لتنظيم الحياة، تعيد للحضارات القديمة اعتبارها لأنها هي التي ارتقت بالبشرية من الحيوانية إلى الإنسانية، وتُقيم المساواة بين المواطنين وتُعلي درجاته بقدر ما ينتج ويضيف للمجتمع وللحضارة بمبدأ (دعه يعمل، دعه يمر)، وتضع الفرد المواطن وأمنه وسلامته وحياته ورعايته ودعمه عندما يكون أهلًا لذلك، الفرد حسب الطريقة العلمانية هي قيمة أولى قدسية بل تعتبره أثمن المقدسات.

والعلمانية في التوصيف السيسبوبوليتيك هي أسلوب لتنظيم المجتمع بعقد اجتماعي يضمن سلامة المجتمع بما يتوافق عليه أعضاؤه، أفراد وطوائف وأعراق وأديان، ويرضى الجميع بشروط هذا العقد مصاغًا في دستور يضمن المساواة بين الجميع في تكافؤ الفرص وأمام موازين العدل وبذات الحقوق والواجبات، وتبادل السلطة بطريقة سلمية عبر صندوق انتخابات خاضع لشروط ومقاييس عالمية صارمة تضمن نزاهة العملية الانتخابية و من ثم السياسية، لاختيار مجلس نيابي وكيلًا عن الشعب ليحكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه.

وفي الجانب النظري الفلسفي، فإن العلمانية حسب معجم روبير، هي بفتح العين: تعني العالم المادي الذي نعيش فيه، فيقتصر اهتمامها على مشاكل المجتمع و الاقتصاد والسياسة والبيئة.. إلخ، وكلها اهتمامات أرضية، مقابل العالم السماوي أو الغيبي الذي لا يمكن النفاذ إليه لمعرفته و بحثه و درسه، لذلك تحيل العالم الغيبي إلى الإيمان القلبي دون تدخل فيه، ودون أن تقول فيه كلمة رفض أو إيجاب.

و”العلمانية” بكسر العين: تعني استخدام منهج البحث العلمي في البحث و المعرفة و الوصول إلى الحقائق المحسوسة، فهي إذ تهتم بدنيانا فإنها تستخدم الحواس، والمختبر والعقل لتصل إلى نتائج صحيحة غير وهمية.. وهي بهذا الموقف تنصرف عن عالم الغيب لأنه لا يمكن حسم أي يقين بشأنه لعدم إمكانية وضعه تحت البحث و الفحص الحسي للوصول منه لحلول لمشاكل تقع في عالمنا الدنيوي، وأيضًا لأن العلم بطبيعته زماني لا يزعم الخلود و لا الصواب المطلق، ويصحح نفسه بنفسه باستمرار ويشغله الإنسان و لا يشغله الله لأنه ليس بحاجة إلينا، وفي المختبر ودنيا البحث العلمي لا حاجة لنا به ليكون موجودًا في المختبر دون فعل، والعلم لا دين له فهو من الجميع للجميع دون تمييز، ويعمل على سعادة الإنسان في الدنيا و لا يخضع لأي معيار من خارجه.

ولذلك تضمن العلمانية لكل مواطن حريته في اعتقاد ما يشاء من أديان، وتحمي لكل مواطن حقه في العبادة والتدين و إنشاء دور عبادته و حمايتها و حريته في الدعوة لديانته بما لا يضر بالسلم الاجتماعي، مستبعدة بذلك عوامل النزاع التاريخية حول الأديان، لأنها لا تنحاز لدين ضد دين، فالدين عندها ممارسة طواعية إرادية تتم عن قناعة و دون إكراه و تنحاز للإنسان وليس لطائفته و لا طبقته، فهي تقوم على وحدة التراث الإنساني دون انتقاء و تفصيل، وتتيح الاختلاف بين المجتمعات حتى في نظام القيم التي تختلف باختلاف البيئة والمكان والزمان، ولا تجبر العلمانية أحدًا على اعتناق مبادئها، ولم يسبق لها أن أرسلت رسالة تهديد أو رفعت قضية ضد من لا يعتنقها، وتقبل النقد وتعتبره إضافة لها لأنها تستفيد منه في إصلاح أخطائها، ولا تحتاج إلى شن حملات إبادة لمن لا يؤمن بها.

وعندما تختلف الآراء وتتعارض فهذا لا يعني بطلان أحدهما فكلاهما بشري، لذلك تقف العلمانية بصرامة ضد الشمولية التي تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة التامة والنهائية، وتمنع الدين من النزول إلى المشترك الاجتماعي العام، ولا تقر إلا القوانين التي يضعها الشعب عبر وكلائه من نواب التشريع بما يعبر عن صالح جميع المواطنين، وبما يرضى الجميع بمساواة، فتصلح للتطبيق دومًا، لأنها دون تمييز في المواطنة لحقوق عنصرية أو دينية أو جنسية إعلانية ولا سند لها في واقع الحياة.

وبمثل هذه المعاني الراقية تمكنت العلمانية من منع وسيادة التعصب فحققت للمجتمع سلامه و أمنه، ونجحت أينما طبقت في كل العالم، وليس فيها عصر ذهبي و لا يقينًا قدسيًا و لا مؤسسة ذات حق إلهي، العلمانية نجحت لأنها أسقطت كل اليقينيات المتصارعة وتعاملت مع كل شأن بحسبانه نسبيًا، وفتحت السبيل إلى غياب التحريم الديني في الفن و العلم، بما فتح الأبواب للكشف و الإبداع و الاختراع و التقدم.. فها نحن منتهون؟

…………………………………………………………………

*سيد القمني مفكر وكاتب مصري مختص في فلسفة الأديان

……………………………………………………………………………..

**نشر النص بموقع الحوار المتمدن بتاريخ 19 سبتمبر 2016

…………………………………………………………………………

***  المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.