الرئيسية » الردّ على مستفتى الدّولة التّونسيّة في تحريمه للتّحرّكات الاجتماعيّة

الردّ على مستفتى الدّولة التّونسيّة في تحريمه للتّحرّكات الاجتماعيّة

عثمان بطيخ

بقلم أسعد جمعة

أفردت الصّحف التّونسيّة كبرى عناوينها إلى “رسالة” توجّه بها المكلّف بخطّة الإفتاء من قِبَل الدّولة التّونسيّة إلى المواطنين التّونسيّين معلنًا موقفه من التّحرّكات الاجتماعيّة التي تشهدها بلادنا.

فنقول في الرّد على ما ورد في هذه الرّسالة: لمّا كان من صميم اختصاص ديوان الفتيا إصدار الفتاوى دون سواها، فلا معنى لاعتبار ما صدر عن “مفتي الجمهوريّة التّونسيّة”، وبغضّ النّظر عن الإشكال الدّستوري والدّيني الذي تطرح هذه التّسمية، مراسلة أو رسالة أو ما شابه للشّعب التّونسي. ولمّا كان المذهب الفقهي الأغلب في الدّيار التّونسيّة هو مذهب الإمام مالك بن أنس –رحمه الله-، فالمفروض على المفتي أن يصدر فتواه على المذهب المالكي دون سواه.

وبالنّظر إلى الفتيا شكلاً ومضمونًا، نجدها مخلّة بشروط إصدار الفتاوى على المذهب المالكي، بل نجدها أقرب إلى المذهب الحنبلي الأقليّ في ربوعنا. فمن المعلوم لدى الضّالعين في الأمر أنّ الأحكام الشّرعيّة إنّما تستنبط في المذهب المالكي بالاعتماد على أصول فقهيّة أربعة، وهي القرآن والسنّة والإجماع والرّأي.

أمّا حجّيّة هذه الفتوى، ولئن كانت مزعومة كما سيستبين في المستأنف من الحديث، فإنّها لا تستند إلاّ إلى القرآن والسنّة دون سواهما، وهما مبدأي تخريج الأحكام عند الحنبليّة، ولا يشاركهم في ذلك لا الشّافعيّة ولا الحنفيّة، فضلاً عن المالكيّة.

أمّا من القرآن الكريم، فقد أورد المكلّف بالفتيا قوله –عزّ من قائل-: ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ ﴾ (سورة البقرة، الآية 205)، على جهة التّأصيل للحكم. فبالعودة إلى آثار المفسّرين نجد الآية الكريمة قد ورت في سياق تمييز أعمال المؤمنين الصّالحة: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ (سورة البقرة، الآيتان 201-202) عن أفعال الفئة الثّانية المنافقين ومَن شابههم من المرتدّين الآثمة ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ (سورة البقرة، الآية 204) (انظر: تفسير ابن كثير مثلاً) –وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المقصود هاهنا هم المشركون من اليهود خاصّة، وهو بعيد (انظر: التّحرير والتّنوير للشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور -.

فإمّا أن يكون المستفتى قد قطع بداية بنفاق مَن يقع عليه ضمير الغائب في قوله –تعالى-: ﴿تَوَلَّىٰ﴾ من “أبناء شعبنا العزيز” الذين يتعيّن عليهم: “ترك الاحتجاجات العشوائية والاعتصامات المعطلة للعمل والإنتاج وسد الطرق والإضرار بالملك العام”، وحكم المنافق، فضلاً عن المرتدّ، شرعًا في غاية الوضوح. وإمّا أن تكون أفعالهم هي المؤدّية إلى شبهة النّفاق، وهذا ما لا يمكن قياسه على وصفه –جلّ من قائل- لأفعال فئة المنافقين، من حيث غياب نيّة الإفساد عند مَن وصفهم. أمّا إذا ثبت بشأنهم النيّة والقصد، أقيم عليهم حدّ المنافق والمرتدّ، فعودة على بدءٍ. فالأسلم، وفق الفقه المقاصديّ وحقنًا لدماء المسلمين، ألاّ نقول بحجّيّة هذه الآية الكريمة في هذا الموضع تحديدًا.

والحجّة الثّانية التي أوردها المكلّف بالفتيا على صحّة ما ذهب إليه قول –عزّ وجلّ-: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة الحشر، الآية 2). والإشارة ههنا بضمير الغائب إلى فئة من اليهود (انظر المرجع السّابق)، بحيث أنّ حكم المستهدَفين بقول المستفتَى هو حكم المشْركين شرعًا. وآثار تشديد المكلّف بالفتوى على غير القياس ههنا أشنع من ذي قبل. فإنّما قبح الفعل هاهنا من فساد عقيدة الفاعل. ولمّا كان المفترض في الفئة التي توجّه لها الملّف بالفتيا من المسلمين، فالأصل فيهم أن تكون عقيدتهم صالحة لا فاسدة، إن كانت أفعالهم تعتريها بعض الفساد. وإن كان ذلك كذلك، فالحكم على أفعالهم سيكون فعل المذنب بفعله لا المذنب بعقيدته. ومثل هذا التّشديد على غير القياس هو من أفعال حشويّة الحنابلة لا من اجتهادات أئمّة المالكيّة.

أمّا عن الحديث الأوحد الذي أورده المستفتى تأييدًا لمزاعمه، وهو قوله –صلّى الله عليه وسلّم-:” المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى”، فعليه لا له. ذلك أنّ القصد منه أن يتضامن العدد الأكبر مع العدد الأصغر، والقويّ مع الضّعيف، وميسور الحال مع الفقير، والعامل مع المعطّل عن العمل، واليد العليا مع اليد السّفلى.

فقدّر –يا أخي- مَن عليه واجب المؤازرة في حالتنا هذه، مَن هو العضو المشتكي المعلول، الجدير بالرّحمة، ومَن هو الجسد الذي لا يزال يرفه بالصحّة والعافية، أي أنّه لم يزل بعد في موقع المنّ والهبة، إن لم نقل موقع إيفاء النّاس بحقوقهم. أليس هذا هو معنى مبدأ التّكافل على الحقيقة، أيّها المتحدّث باسم الجمهوريّة؟

وختامًا، فإنّ الفقير إلى ربّه لا يدّعي لنفسه شرف، والأحقّ أن نقول محنة، الفتيا، ولكنّه يدعو كلّ مستفت إلى التّأمّل في قوله -عزّ من قائل-: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النّحل: 116 ـ 117) ، وانظر إلى قوله –تعالى-: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (سورة الأعراف، الآية 33)، فجعل القول على الله بغير علم فوق الشرك به –سبحانه-.

وقد جاء في الصّحيحيْن أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: “إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتّى إذا لم يُبق عالمًا اتّخذ النّاس رؤوسًا جهّالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا”.

والمفتى بغير علم إذا أخطأ يكون إثمه على مَن أفتاه، لقوله -صلّى الله عليه وسلّم-: “مَن أفتي بغير علم كان إثمه على مَن أفتاه”. (رواه أبوداود وابن ماجه وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-)

وقد جاء في حديث رواه الإمام الدّارمي -رحمه الله- بسند واحد عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، في سننه (1/69)، فقال: أخبرنا إبراهيم بن موسى، حدّثنا أبي، حدّثنا ابن المبارك، عن سعيد بن أبى أيوب، عن عبيد الله بن أبى جعفر وابن عدّي عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: “أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار”. ولئن كان الحديث معضل، ولكنّ معناه صحيح.

فتدبّر أمرك –يا أخي-، وانج بنفسك قبل فوات الأوان. والله أعلم.

أمّا بصفتك الوظيفيّة، فأقول لك: ليس للدّولة التّونسيّة أن تقول أيّ شيء للشّعب التّونسي باسم الدّين، لأنّها ببساطة غير مؤهّلة للنّطق باسم ديننا الحنيف. وأمّا الدّولة التّونسيّة، فكلّ ما يمكنها أن تفعله هو الإعلان عن موقفها السياسيّ، طبقًا لدستور البلاد والقوانين ذات الصّلة، من هذه التّحرّكات. فالزجّ بالدّين في مثل هذه المسائل المدنيّة لا يمكنه إلاّ الإضرار بها وبه من حيث مزيد تعقيد المعقّد أصلاً.

…………………………………………………………………………………………….

المواقف والأفكار التي تنشر في قسم “أفكار” لا تلزم إلا أصحابها ولا يعني نشرها من قبلنا تبنينا لها بأي صفة من الصفات .

 

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.