الرئيسية » حدود العمل النقابي الأمني؟

حدود العمل النقابي الأمني؟

بقلم محسن بن عيسى*

هناك استغراب من تغيّر المشهد الأمني لدينا منذ الثورة بظهور نقابات أمنية، وهناك تباين في الرؤى بين التّهميش والتّحديث لدور وزارة الداخلية والدولة. ويبدو أنّ هناك تغافلا عن شيء هام، وهو أن الدولة لم تعد توجّه المجتمع في المطلق بل أصبحت انعكاسا لفكره ورغباته، وبالتالي أصبح النظام السياسي جزء من النظام الكلي الذي هو النظام الاجتماعي.

لكل حقبة زمنية أنموذجها الاداري ومن الطبيعي أن يكون أنموذج الادارة بشكل عام في مطلع القرن الحادي والعشرين منفتحا على مؤسسات ومهام ومجالات عمل ووظائف جديدة مواكبة. ومن المألوف أن يفرز هذا المشهد العمومي إشكاليات تباشرها كيانات اجتماعية لهذه الادارة مثل نقابات الموظفين ونقابات الأمنيين. لقد خرجت كل سياسة مهنية فيما سبق ببديل لسياسة قديمة تم انتقادها.

واعتقادي أن إقرار العمل النقابي لقوات الأمن الداخلي طبقا للمرسوم 42 المؤرخ في ماي 2011 وتأكيد ذلك في الفصل 36 من الدستور التونسي الجديد المصادق عليه في 26 جانفي سنة 2014، لا يجب فهمه فقط من زاوية الحق النقابي ومبدأ الحرية، بل يجب أن ينظر إليه كبناء أمني حضاري جديد يبدأ من الأسفل أي من رجل الزي نفسه لا من أعلى أي من الدولة.

إننا لا نعيد اختراع العجلة كما يقال، فإقرار الحق النقابي للعمال تاريخيا هو الذي فسح المجال للحق النقابي للموظفين، ومن رحم هذه التجربة وُلد الحق النقابي للأمن الذي تمّ إتباعُه بخطوات متواضعة في الحق النقابي العسكري عن طريق هياكل الجندرمة.

أمامنا الكثير من التجارب الأجنبية ولكن المؤكد أن خصوصية واقعنا المتمثل في عدم مرور الأمن بتجربة العمل الجمعياتي والدخول مباشرة في العمل النقابي، تستدعي التزاما شديدا بمقتضيات القانون للدفاع عن مصالح الأمنيين المادية والمعنوية، وتثبيت تقاليد رصينة في التعامل مع قضاياهم .

لقد تسبّبت مشاهد المجادلات والتصعيد المتتالية في توجيه ضربة مؤلمة لهذه التجربة النقابية وهذا المكسب الاجتماعي الأمني…كما اعتبرت على حق هذه الممارسات خطوات إلى الخلف. لم يعد بالإمكان إرجاع الانزلاقات الجارية إلى حداثة التجربة فالاتهامات المسجّلة مثل التغوّل والتمرّد والدعوة لحلها، هي على غاية من الخطورة وليس لها نتيجة إلا فقدان القبول المجتمعي والمؤسساتي لها وإدخالها في خانة الإدانة الدائمة.

لست براغب في احباط العزائم و لكن على الجميع أن يدرك أن إرباك أبرز وسائل القوة المادية التي تعتمدها الدولة القانونية ” الأمن”، سيفقد الدولة إن عاجلا أو آجلا ضمان شرعيّتها.

لقد كان دوما للعمل النقابي الوظيفي أنصار ومعارضون لعلّ أبرز معارض فيهم وأقدمهم هو الفيلسوف و عالم الاجتماع الفرنسي “إميل دوركايم” ، لذلك طبيعي في أيّ مجتمع أن تنشأ خلافات حول بعض الممارسات النقابية، ولكن على النظام السياسي أن يضطلع بدوره في اعتماد الصيغ الكفيلة بتثبيت القيم المناسبة لها وتكريس البعد الاصلاحي فيها وإقرار التوازن الطلوب بين المؤسسات الرسمية والمنظات النقابية.

فالجهات المستفيدة من هذه الخلافات تبدو متعدّدة وهي متربّصة بالمؤسسات الرسمية وبالتالي النيل من الدولة، خاصة إذا أخذنا في عين الاعتبار خطورة الوضع في البلاد وما يتطلّبه من ترسيخ لصلاحيات استثنائية للأجهزة الأمنية بموجب قانون الطوارئ.

ولعلّه من المهم التذكير بأن النقابات تتمتّع بوضع استثنائي تُبرزه خصوصية العلاقة القائمة بين الدولة صاحبة السلطة وبين هياكل الأمن كأداة لهذه السلطة. وغريب الحديث عن مخاوف من النقابات كما ذهبت إليه بعض الكتابات، أو اقحام هذا الموضوع ضمن شماعة “الجهاز القمعي”، فهذا انزلاق قلم .. وزلّته أعظم من زلة القدم.

وللعلم فإنّ أجهزة الأمن تخضع إلى مبدأ “القوة العمومية” التي تستمد شرعيّتها من “دولة القانون”. لذلك كان القانون ولا يزال همزة الوصل بين الأمن والسلطة، وعبر القانون اكتسبت الأجهزة الأمنية شرعيّتها، ولهذه الاعتبارات تعمل منظومة الداخلية على إخضاع مختلف مؤسساتها لمبدأ المشروعية.

وبناء على ذلك فالقوات الأمنية هي جزء لا يتجزأ من الدولة، وبحكم مشمولاتها لا تتعارض معها وليست منعزلة عنها، وعلى النقابات الأمنية اجراء المعادلة اللازمة للتلاؤم مع هذا الواقع و الحفاظ على استقلال قرارها. يظل المكوّن النقابي في وزارة الداخلية أقرب إلى الجميع كلما حافظ على الصبغة الأمنية العسكرية بمضامينها الانضباطية المختلفة وحرص على عدم تشويه المؤسسة الأمنية كيانا ووظيفة.

من الثابت أن صون النقابات لمكتسبات الوزارة في استعادة الأمن ومكافحة الارهاب والفساد هو مفتاح دعمها لحماية مصالح رجال الأمن المهنية و القيام بدورها الحيوي في تنفيذ السياسات المعتمدة.

علينا أن نتذكر وأنّ العمل الجماعي يبدأ من خلال بناء الثقة، والطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي التغلب على حاجتنا للحصانة.

*متقاعد من سلك الحرس الوطني

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.