بقلم فرحات عثمان
إنه من المؤسف حقا أن نرى جمعياتٍ لا نشكّ في حرصها على نجاح الانتخابات ونزاهتها تشكك فيها بدعوى كاذبة ولأسباب تافهة. إنها بذلك تصطف، عن قصد أو غير قصد، وراء من جنّدهم تجّاره وأهله ممن يوزّع الحبر الانتخابي للدفاع عن مصالحم. فكيف يقبلون بتبذير المال العام في تفاهات بدعوى كاذبة؟ فالحبر خدعة ووصمة وجب الكف عن الكلام فيها؛ هي باطل يُراد حقّا.
الحبر وصمة التخلّف :
من المرجّح، منطقيا وخلافا لما يُقال، أن من ينادي بالعمل بالحبر الانتخابي ليس همّه حقيقة ضمان نزاهة التصويت. إنه فقط يسعى، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، إلى تلبية رغبات من يرّوجه، أي الربح السهل، وقد أغاظه ألا تواصل تونس اللجوء لمثل وصمة العار هذه على أصابح التونسيين. فلقد أثار فعلا القرار الصائب والمتمعّن والحصيف للهيئة المستقلّة للانتخابات حفيظة هؤلاء التجّار الموزعين لحبر لا يُستعمل إلا في البلاد حديثة العهد بالديمقراطية، والتي يُراد لها أن تبقى متخلفة ذهنيا.
الحبر مجرّد وسم على أصابح الناس؛ وهو في أفضل الحالات كذلك الحبر المُستعمل من طرف من لا يحسن الكتابة للتوقيع. طبعا، لا حاجة في العملية الانتخابية للكتابة، بل للتعريف بأن الشخص المصوّت هو الذي له الحق في ذلك ولا غيره؛ وهذا يُثبته اسمه والتعليم عليه بالقائمة عند التصويت.
أما أن يصلح لمنع من صوّت مرة بعدم العودة للتصويت، فذاك غير وارد وغير ممكن إلا إذا لم يقع وضع العلامة على اسم المصوّت بالقائمة الانتخابية؛ وبديهي أن هذا جرم يعاقب عليه القانون ويُبطل العملية الانتخابية برمّتها.
لذلك، غض النظر عن هذه الحقيقة، وهي الأهم، لدعوى لاطمئنان بما ليس من شأنه منعه، هو بداهة من باب التخلّف، إن لم يكن محاولة تمويهية للتغطية على تجاوزات حقيقية في نزاهة الانتخاب لمجرّد وجود وصمة الحبر على الأصابع.
ثم هل تستعمل البلدان المتقدّمة الحبر؟ لو كان فيه أقل فائدة، لبادرت إليه بما أن الاخلالات والشوائب لا تنعدم أيضا في انتخابات الدول الديمقراطية. إلا أنها غير متخلّفة، فتحرص على ما فيه فائدةً حقًا بتشديد الرقّابة وفاعليتها لمنع نجاح الحيل؛ فهي لا تناور بالتظاهر بمقاومة التحيّل والخدعة مع اللجوء إليهما، كهؤلاء المطالبين بحبرٍ هو خدعة تجارية ووصمة تخلّف، بما أن لا فائدة فيه.
لا فائدة في الحبر الانتخابي:
ليست هناك فائدة في أي حبر عند وُجود القوائم الانتخابية وكانت محيّنة؛ وهذه هي الحال في تونس، فلمذا الحبر؟ يقول تجّاره، خاصة الداعون إليه رغم ثمنه الباهض بالنسبة لبلاد فقيرة مثل تونس، أن من شأنه منع التزوير، فكيف يكون ذلك ما دام التصويت يتم باعتماد القواعد، والهوية تُثبتها أوراق رسمية؟
لئن صلح الحبر لأجل الخوف من وقو ع مثل هذه التجاوزات، فهذا يعني، كما سبق بيانه، أن المسؤولين على المكاتب الانتخابية غير مؤهّلين للسهر على نزاهة كل العملية، وذلك لا لعدم وجود حبر على الأصابح، بل لعدم التعليم على من صوّت مرة حتى لا يصوّت ثانية أو أكثر.
وهبنا استعملنا الحبر، هل هذا يكفي إذا كان القائم بالسجل غير نزيه؟ من يمنعه من قبول التصويت مثنى وثلاث رغم الحبر، مستنبطا الوسائل التي يوفّرها ذهن المتحيّل، وقد علمنا أنه ينتصر دوما على العسس؟ إنه من الخور أن ننسى أو نتناسى الأصل، أي نزاهة القائمين بالعملية الانتخابية، للتشبّث بالفرع، خاصة أنه لا يغني عن الأصل ويُكبّد البلاد مصاريف لا نفع فيها إلا للمتاجر بالحبر.
كفانا إذن خدمة لرأس المال المخادع! إن أخلاقنا تمنع أن نكون في ركاب أصحاب المال الفاسد الذين لا يتورّعون عن جعل هذه الانتخابات مجرّد عمليةتجارية. ولا شك أنه ينجحون في ذلك إذا قرّرت الحكومة، تحت ضغط أنصار الحبر، الاستجابة للدعوات غير المعقولة المطالبة بتبذير المال العام في مثل هذه التفاهة.
إنها بذلك لتخدم بحقٍّ نوايا من يدّعى جزافا نزاهة الانتخابات بينما لا يهمّه فعليا إنعدام ما من شأنه إشانتها، إذ اللجوء لخدعة حبرٍ لا فائدة فيه علميا هو التدليل الكاذب عن نزاهة الانتخاب والتدليل الصادق على التخلف الذهني.
شارك رأيك