ساحة القدّيس بطرس.
هذا المقال هو السابع من سلسلة تنشر تباعا كا يوم أحد في “أنباء تونس” يرصد الكاتب فيها بعض الإشكاليات التي تواجه المسيحية العربية ونظيرتها غير العربية. كما يشير في العديد من المواضع إلى ضرورة تصويب الرؤية بشأن مسيحية الداخل ومسيحية الخارج. فلديه حرصٌ على التفريق بينهما، لما لمسه في المسيحية الغربية من نزوع للهيمنة. وهنا يتعرض الكاتب اظاهرة تراجع دوا الكنيسة في الغرب و تطوره في بقية العالم.
بقلم عز الدّين عناية *
بموجب سكناي في روما في حي شعبي متاخم لحاضرة الفاتيكان، إعتدت أن أتوجّه صبيحة أيام الآحاد وأيام الأعياد إلى ساحة القدّيس بطرس في روما في جولة روتينية، رفقة أفراد عائلتي أو بمفردي، فأصغي إلى ما تيسّر من عظة البابا، وأتمعّن في الحشود الآتية من كل فجّ عميق، ثم أعرّج باتجاه المسرح الروماني، لأزور موضع المعتقَل الذي هلك فيه النوميدي يوغرطة.
غير أن ما يسترعى انتباهي مع كل جولة، قلّة الزوار في ساحة القدّيس بطرس، كبرى ساحات الكاثوليكية في العالم. فعادة ما يتوافد الزوار بالألوف عند أداء قداس يوم الأحد، لكن كثيرا ما صادف أن لاحظت الساحة مقفرة على غير عادتها، خالية من الوفود الحاشدة، إلا بضعة مئات من الحضور، فقد تمثّل لي البابا يعظ التماثيل والأوثان التي تزدحم بها الساحة لا المؤمنين برسالته.
تقلّص أعداد الوفود التي تفد على ساحة القديس بطرس
والواقع أن تقلّص أعداد الوفود التي تفد على ساحة القديس بطرس، إنطلق منذ إعتلاء البابا جوزيف راتسينغر كرسي الحبرية في 19 أبريل 2005. فقد قُدِّر التراجع على مدى السنة بما يربو عن نصف مليون، وهو نزيف هائل في أعداد القادمين إلى كنيسة القديس بطرس، كنيسة البابا، ذلك ما تجلّى بحسب المعلومات الرسمية الأخيرة الصادرة عن القصر الرسولي بالفاتيكان.
فخلال العام 2008 توافد على اللقاءات العامة مع البابا، سواء في كنيسة القديس بطرس أو في كاستل غاندولف، مقرّ الإقامة الصيفية للبابا في ريف روما، مليونان ومئتا ألف من الزوار والأتباع والحجيج. ولتتضح الأمور بشكل أفضل، يستدعي الأمر العودة إلى أرقام السنوات الماضية. فخلال الإثني عشر شهرا الأولى من حبرية راتسينغر توافد للإستماع لعظة البابا أكثر من أربعة ملايين شخص. تراجعت أعداد الوافدين على الساحة للعام الثاني على التوالي، من مليونين وثمانمئة ألف سنة 2007 إلى مليونين ومئتي ألف خلال العام 2008، وقد كان العدد خلال العام 2006 زهاء ثلاثة ملايين ومئتي ألف.
الملاحظ أن حشود الوافدين الكاثوليك على ساحة القدّيس بطرس، تأتي أساسا بغرض زيارة ضريح البابا السابق كارول ووجتيلا، وليس انجذابا إلى عظة البابا راتسينغر. وهو ما يدعمه إقبال الزوار والسياح على إقتناء البطاقات البريدية، والروزنامات، والألبومات، التي تضمّ صور البابا السابق أكثر من اقتناء مثيلاتها التي يرد فيها البابا الحالي.
التراجع العام للمسيحية في الغرب وتطوّرها خارج الغرب
تفوق أعداد الكاثوليك المليار ومئة ألف نسمة، لكن هذا العدد الهائل ما عاد يحفزه الإنجذاب الكافي إلى رأس الكنيسة في روما. لا بد من النظر إلى هذا التراجع ضمن بعدين: الأول ماكرو مسيحي، ونعني به التراجع العام للمسيحية في الغرب وتطوّرها خارج الغرب، خصوصا في إفريقيا، حيث تضاعف العدد ثلاث مرّات خلال ربع قرن، وهو الازدياد الأكثر ديناميكية في العالم الكاثوليكي. كان العدد خلال 1978 55 مليونا تقريبا، وبلغ مع حلول 2004 149 مليونا؛ والثاني ميكرو مسيحي، وهو فقدان رجل الدين الكاثوليكي لدوره الروحي في المجتمع، وتحوله إلى حرس لنظام اجتماعي ليبرالي، فما عاد المؤمن يعنيه احتكار الكنيسة للقداسة في زمن ما بعد الحداثة.
ففي قارة عتيقة، صارت حتى الكنيسة عتيقة، أو بالأحرى في قارة هرمة غدت حتى الكنيسة هرمة. فالأب المقدّس، أو الحبر المقدّس، أو رئيس الكنيسة الكاثوليكية، أو خليفة المسيح، بحسب نعوت المؤمنين له هو ظلّ الربّ على أرضه، غير أن هذا التجلي ما عاد يجلب المؤمن، فأين الخلل؟ ثمة من يفسر ذلك الأمر بمحدودية كاريزما راتسينغر، وقلة شمائل جذبه، التي تمتد من لسانه الإيطالي الركيك، رغم مضي ما يناهز ثلاثة عقود على عيشه في إيطاليا، إلى ما يميزه من خجل مفرط.
قد تكون تلك من جملة العوامل التي تنفر الناس من راتسينغر، ولكن ما العوامل التي تجعل المجتمع ينأى عن الكنيسة، وبالمثل تبتعد الكنيسة عن المجتمع؛ أو بحسب القول الشائع الذي يلخص النزيف المتواصل: “الساحات عامرة والكنائس خاوية”؟ يحصل ذلك حين تتحول الأديان إلى هياكل تفتقر للروح، حين يصير المعبد أقدس من البشر، حين يتحول السدنة أنفذ سلطانا من الربوبية، وحين يصير بهرج الطقس أعلى شأنا من الشعيرة، عندها يدخل الدين حالة الموات.
لقد صارت الكنيسة مرفوضة حتى في فضاءاتها التقليدية، فأعتى الدول الكاثوليكية إيطاليا وإسبانيا، تشهدان مواسم “مقامع الصلبان”، فبعد حكم القاضي في إيطاليا بقانونية إنزال الصلبان من قاعات التدريس، في حال مطالبة أحد أولياء التلاميذ بذلك، ها هي إسبانيا، يقضي فيها القاضي أليخاندرو فالنتين بقانونية إنزال الصليب من جدران مدرسة عمومية، بعد أن كان من المقدسات، منذ أن عدّ فرانكو الكاثوليكية دين الدولة.
يتبع.
* باحث تونسي وأستاذ بجامعة روما.
* * مقال مقتطف من كتاب للمؤلف بعنوان “رسالة إلى أخي المسيحي”.
رسالة إلى أخي المسيحي (6): سانت إيجيديو… الذراع العلمانية للكنيسة
رسالة إلى أخي المسيحي (5): الكنيسة و”حركة النهضة” أو عفا الله عمّا سلف
رسالة إلى أخي المسيحي (4): إستراتيجية الكنيسة الغربية في بلاد المغرب العربي
شارك رأيك