علينا كتونسيين أخذ الموعظة من سيرة الرئبس الراحل المرحوم محمد الباجي قايد السبسي وحكمته واعتداله ونفاذ بصيرته وطبيعته السلمية والتوافقية، حتى نضمن قيادة البلاد وحكمها بهمة عالية واستماتة ترسم أحسن صورة لتونس الوفية لأبنائها وزعمائها وشهدائها والباقية مدى الدهر على خطى عظمائها الذين بنوا أمجادها عبر القرون علماً وحضارة وأصالة.
بقلم الدكتور المنجي الكعبي *
شيعت تونس يوم 27 جويلية 2019 فقيد الوطن رئيس جمهوريتها المرحوم محمد الباجي قايد السبسي. وبتشييعه شيعت عهداً من الحكم بل حاكماً لا قبل لها بمثله في السابق
فالرئيس الباجي كان رئيساً منتخباً انتخاباً عاماً ديمقراطياً حراً نزيهاً شفافاً بعد ثورة عارمة، بمقتضى دستور جديد مقيّد لصلاحيات الرئيس قياساً بأسلافه منذ الإستقلال. فذهب وفي قلبه غصة لكونه لم يحكم كما كان يريد بصفة الحاكم الذي لا معقب لأمره، لتنفيذ إصلاحاته الكبرى، كزعيم له رصيد كبير من التجربة بالحكم وبالنضال. فظل يبحث كيف لا يغادر السلطة قبل أن يستوفي بيده نظاماً رئاسياً وبرلمانا معدلاً خلافاً لما أنتجته تجربة الإنتخابات التشريعية السابقة بسبب نظام النسبية الذي كشف عن عيوب كثيرة في التعاطي البرلماني مع الحكومة ومع مشاريع القوانين لحساب المصالح الشخصية والأغراض الحزبية الضيقة. فعرقل ذلك دواليب الدولة عن كل تحرك سريع بمشهد منه لمقاومة التخلف الذي أصبحت ترزح البلاد تحته أكثر فأكثر.
ضرورة التعديل المأمول في الدستور لترشيد الديمقراطية
ولعل وصية المرحوم محمد الباجي قايد السبسي الكبرى أن يتحقق هذا التعديل المأمول في الدستور لترشيد الديمقراطية وتجاوز سلبيات المرحلة التي عاشها هو بمرارة طيلة الخمس سنوات وهو على رأس الدولة.
مات وهو على سدة الحكم غير مطاح به ولا مخلوع، وفي قلبه هذه الوصية الكبرى، بأن لا يتوقف المسار الديمقراطي للبلاد، كما أكدها نجله الأكبر في أول تصريح له وهو بعد مشغول بتجهيز دفن والده.
مات وقد خلّف تونس على وقع تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية، لأربعة أشهر تقريباً قبل انتهاء العهدة التي حددها الدستور بخمس سنوات بين كل انتخابات وأخرى.
مات وفي الأفق كانت إمكانية ترشحه لخلافة نفسه واردة في ظل تجاذبات برلمانية حادة حول التأخير الحاصل في إنشاء المحكمة الدستورية، والمفاجأة الكبرى بعدم ختمه هو للتعديل الجديد للقانون الانتخابي الذي تقدمت به حركة النهضة وأنصارها الى البرلمان
قيل هو مجرد توقف عن الختم لأسباب صحية وقيل لصبغة هذا القانون الإقصائية. وكل ذلك على خلفية الصراع القائم بين الأحزاب في الترتيب للإنتخابات المقبلة. مع إصرار البعض من باب التحدي على عدم إنهاء العهدة النيابية الحالية قبل التصويت على قانون المحكمة الدستورية واعتماد التعديل الجديد لقانون الإنتخابات بتعلة تعذّر ختمه لأسباب راجعة الى صحة الرئيس وغير معطلة له.
تأخير إحداث المحكمة الدستورية يلقي بضلاله على المرحلة
ولا شك أن الشغور الرئاسي لو حصل لعجز لكان البت فيه بدون المحكمة الدستورية أمراً مثيراً للإشكال بدرجة محيرة، لكن وقد حسم القضاء بحصوله بسبب الوفاة الطبيعية فالحاجة تبقى متأكدة الى المحكمة الدستورية، بعدما كان متعيناً وجودها خلال العام الأول لصدور الدستور. وتأخيرها أثار بالفعل كثيراً من الطعون إزاء تعاطيات هذا الطرف أو ذاك في السلطة مع الدستور بشكل يخرقه روحاً ونصاً.
وهذا كله ألقى حتماً بظله الثقيل على الأوضاع الجديدة. فالتقارب الزمني الحاصل الآن بين انتخابات رئاسية مبكرة وانتخابات رئاسية عادية أثار قضية الرئاسة لبقية المدة والرئاسة للمدة العادية، فتزامنت انتخابات رئاسية مبكرة وأخرى عادية دون مانع دستوري.
وما دامت تونس تعيش منذ الإستقلال الى الآن في وضع دستوري مجرد من محكمة دستورية تبتّ في إشكاليات تطبيقه، فلا يمكن إعفاء جميع الأطراف من مسؤوليتها على استدامة هذا الوضع دون اتهامها بالإستفادة منه لصالح نفسها، وعدم تقديرها للمصلحة العامة من أجل تجاوزه.
وقد رأينا ما أوقع النظام البورقيبي، وكذلك نظام بن علي رغم إحداث هذا الأخير ما سمي بالمجلس الدستوري دون أن يمحنه عملياً الإستقلالية المطلوبة، ما أوقعهما في الحكم الفردي بإطلاق حين منع كل منهما من قيام تداول دستوري سليم على السلطة. وتجلى ذلك فيما سمي بالإنقلاب الدستوري الذي قاده بن علي لتولى الخلافة الآلية، باعتماده على الفصل المعين في الدستور الذي يتحدث عن الشغور الرئاسي بسبب العجز، مهملاً الفصل الإستثنائي قبله المتعلق بالرئاسة مدى الحياة للرئيس بورقيبة إسمياً.
وليس ذلك فحسب بل بتعمّد إهمال الوزير الأول محمد الغنوشي عند توليه بعد قيام الثورة منصب رئيس الجمهورية بدعوى غياب بن علي وقتياً عن البلاد، إهماله أخْذ رأي المجلس الدستوري القائم آنذاك، بل وتغييب رئيسه عن مراسم تنصيب نفسه يومها.
ضرورة وضع حد للإنتهازية السياسة بالتمكن من الحكم والإستمرار فيه
وإذا كانت تونس تعاني من الفردية في الحكم، بسبب سيطرة الحزب الواحد على الحكم منذ الإستقلال وإلى نهاية حكم بن علي، رغم ما طعّم به كل منهما نظامه من تعددية صورية وديمقراطية صورية كذلك، فقد لاحظنا بعد الثورة كيف أصبحت أحزاب المعارضة التي كانت تنتقد بن علي وقبله بورقيبة تمارس السياسة بصورة إنتهازية للتمكن من الحكم وللإستمرار فيه، باستخدامها لآليات الديمقراطية دون روحها وفحواها، ولو أدى الأمر ببعضها الى التخلي أو الإنسلاخ عن مبادئها الأصلية التي ناضلت طويلاً على أساسها، للتكيّف مع ما تسميه طبيعة التطور وسياسة المراحل وتغيّر الظروف، وما إلى ذلك من المبررات، ملقية وراء ظهرها ما أخذته على نفسها من زهد في الرئاسة الأبدية الحزبية والإنسحاب في صورة الفشل في إدارة الشأن العام، وحتى الشأن السياسي صلب منظوماتها الحزبية قمعاً لأصوات المعارضة داخلها لقياداتها التقليدية.
والأستاذ الباجي رحمه الله وقبله الأستاذ فؤاد المبزع كلاهما ركبا الثورة لتحقيق أغراض لم تكن ذات يوم في عهد بورقيبة أو بن علي بالمتاح لهما تحقيقها. فلم يكن بإمكان أحدهما أو الآخر أن يفوز بالترشح لمنافسة بورقيبة في رئاسة في عهده أو خلافة آلية بعده. وربما يرجع اختيار الزين بن علي لكليهما ليس أكثر من تزيين حكمه بهما بعد بورقيبة، وعلى حساب من كانوا يفوقونهما صفة وأوصافاً، إن لم يكن اختياراً مبعثه أصلاً الجفوة القائمة بينهما وبين بورقيبة في السابق.
فلما كانت الثورة لم يترددا، وأحدهما في رأس السلطة بعد، في التعاون من أجل استبقاء مقود الأمور بأيديهما معاً، لانتزاع وقوع الدولة بعد الثورة بيد خصومهما، والإستحواذ عليها دونهما ودون طبقتهما السياسية عموماً. فاصطنعا من الأسباب، وخلقا من الظروف، ما يبرر لهما الفوز بنصيب الأسد من أوضاع ما بعد الثورة. فنجحا في جرّ تيارها – حتى لا نقول تحريفها عن مسارها – الذي كان يهدف أولاً الى استبعاد رموز النظامين السابقين وكذلك الموالين لهم لحساب الشخصيات الوطنية التي عرفت باستقلاليتها ونضالها في العهدين الماضيين.
ولا يخلو كل شخص سياسي، ما دام بيده مقود الأمور ولا معقب لأمره وهو في سلطة ما من السلط من الميل الى دعم موقعه ادخاراً للمستقبل، مستغلاً الأوضاع الأنتقالية وخلق الظروف ربما لتطويع القانون والدستور لصالح نفسه.
الرئيس الوقتي للجمهورية فؤاد المبزع يطوع القانون والدستور لصالح نفسه
ولذلك فبدل أن يلتزم الرئيس الوقتي للجمهورية بعد هروب المخلوع بتنظيم الإنتخابات الرئاسية تطبيقاً للدستور تطلع الى استنفاد ما في الدستور من مواد مناسبة لدعم سلطاته وخاصة الفصل 46 الذي يتحدث عن الخطر المهدد للجمهورية، ليتخذّه، وبحجة حماية الثورة وتسهيل الإنتقال الديقراطي والإصلاح السياسي، منصّة للبقاء أطول مدة على رأس الدولة. فأفضى الأمر بين يديه الى صلاحيات تفوق صلاحيات بن علي الرئاسية في الدستور. وكرّس هذا الأمر الأستاذ المبزع باختيار صديقه الأستاذ الباجي لتولى الوزارة الأولى وفي الوقت نفسه الإشراف على مخرجات لجنة يرأسها صنيعهما الآخر الأستاذ بن عاشور لإدارة الحوار السياسي والإجتماعي بين الأطراف المتقابلة من أجل الإعداد لقيام المجلس التأسيسي الجديد وكتابة الدستور.
فمضت مدته على كرسي رئاسة الجمهورية قرابة العام، بينما كان المفروض أن يغادر المنصب بين أربعين وستين يوماً من هروب المخلوع. وغادر المنصب أخيراً ليتمتع بتقاعد رئيس جمهورية كامل الصفة، في حين القانون الذي أحدثه بن علي على مقاسه لضمان تقاعده اللائق بعد مغادرته السلطة، لا ينص على أن يشمل هذا القانون رئيس الجمهورية الوقتي، لأن الوقتي ليس في حكم الأصلي، المنتخب انتخاباً عاماً لمدة مقدرة بخمس سنوات. واحتفظ له التنقيح الجديد لهذا القانون في عهد رئاسة صديقه الرئيس الباجي بهذا الحق. وربما كان يسقطه – لولا وجوده – لحرمان الرئيس الوقتي الآخر المنصف المرزوقي من تقاعد مماثل، فلم يملك الأستاذ الباجي الذي اقترح مشروع القانون غير أن يحدد إمتيازاته لصالح إقتصارها على الرئيس المباشر دون الرئيس المتقاعد.
وبالنتيجة تولى السيد فؤاد المبزع رئاسة الجمهورية وقتياً وهو أقصى ما يمكن أن تطمح له نفسه في حين كان مهدداً بالإطاحة به، مثل رئيسه بعد الثورة، وكذلك مثل الوزير الأول آنذاك محمد الغنوشي. فتكون هذه المدة التي قضاها على رأس الجمهورية بعد الثورة كفلت له خروجاً سالماً من السلطة، وزاد تأميناً له في الخروج السليم بإلزام صديقه الباجي، الذي لا يفتأ يؤكد بأنه صاحب الفضل عليه وحده في اصطفائه لهذه المنصب، إلزامه بأن يغادر الوزارة الأولى ويسلّم عهدتها الى خليفته حمادي الجبالي، الذي عينته النهضة بصفتها الحزب الفائز بالأغلبية في المجلس الوطني التأسيسي رئيساً للحكومة اللاحقة.
لأن الأستاذ الباجي كان من رأيه أن يستمر في السلطة الى حين انتهاء المجلس التأسيسي من كتابة الدستور، بعد عام تحديداً. وفي الأخير لم يجد بداً من التسليم بالخروج إذعاناً لضغوط خصومه من النهضة، فغادر المنصب كالمأسوف على حظه، لأنه كان ينشد الترشح لرئاسة الجمهورية بعد قيام المجلس التأسيسي، لكن النهضة راوغته وأخلفت الوعد، بتعلة قيام الثالوث المشارك في الحكم والمتمثل في الحزبين الآخرين اللذين أهلتهما النهضة لمشاركتها في السلطة الثلاثية في البلاد أو ما يسمى بالرئاسات الثلاث.
الباجي يجمع شتات المعارضين وأزلام النظامين السابقين لزعزعة حكومة النهضة
خصوم النهضة، الذين أصبح على رأسهم الوزير الأول السابق الأستاذ الباجي، لم يتأخروا في تضييق خناق المعارضة على نظام الإخوانجية – كما يسمونه – وحلفائهم في “الترويكا”، الى حد اتهامهم بالإغتيالات السياسية التي حصلت، وبتدهور الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والأمنية التي أفرخت ظاهرتي الإرهاب والتهريب.
وقام حزب نداء تونس الذي أسسه إذن الأستاذ الباجي ليجمع شتات المعارضين وأزلام النظامين السابقين ويوحّدهم وراء زعامته، مع عدد قليل من الوجوه المستقلة حقيقة، ليكتسح بجميعهم ساحة الإنتخابات التي كانت مؤهلة بالقانون الإنتخابي، ذي نظام النسبي، لزعزعة نظام الإخوان المتهالك بسبب الصدمات الكثيرة التي كان يتلقاها من الإدارة العميقة وقلة صبر الناس على تحسين الأوضاع بطريقة سريعة، على يد الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، والتي لم تسعفها كلها الخبرة بالإدارة وممارسة السلطة لتجنب الوقوع في هفوات كثيرة.
فحاربهم الأستاذ الباجي بالتخلّي عن الإسلام كمرجعية للحكم وحاربهم بالتنصل من السلفية والسلفيين إخوانهم في الدين وعبر الحدود، وحاربهم أخيراً بتحرير المرأة المطلق من كل هيمنة أو قوامة رجالية أو تكامل أو توريث غير متساو. وتحالف مع خصومهم من اليسار الإسلامي واليسار الإشتراكي والشيوعيين والقوميين الوحدويين، فضلاً عن خصومهم من الدستوريين البورقيبيين والتجمعيين – صنيعة بن علي – وغيرهم من العلمانيين والفرنكوفونيين.
ولعب رجال المال والأعمال من بينهم الدور المناط بعهدتهم لخدمة الإعلام والحملات الإنتخابية، بأقوى مما كان يستخدمهم الزين من أجله، بعكس بورقيبة الذي كان يوصي بحزم كما سمعته في آخر مؤتمر حزبي له أن يحظر على كل رجال حزبه في مستوى اللجنة المركزية للحزب حمل بطاقة زيارة للواحد منهم تحمل صفته كعضو باللجنة المركزية، منعاً لاستخدامها لدعم نفوذه وأعماله.
احتدام صراع القيم القديم المتجدد بين المحافظين والتقدميين
فالصراع، الذي قيل في الأول إنه صراع بين محافظين وتقدميين في صياغة الدستور لم يكن وراءه إلا تشتيت الجهود لظهور كل مقررات السلطة القائمة في أسوأ حال واضطراب، كان في الواقع كما تجلى ذلك فيما بعد، صراعَ قيم يدافع عنها طرف إسلامي عروبي بكل مفاهيم هذا التوجه المزدوج له بمقابل طرف يساري وسطي ليبرالي عموماَ يؤمن بمدنية الدولة بمعزل عن الدين أو بالحرية الفردية والتعاطي الحر مع المال والأعمال والعلاقات، دون رادع إلا القانون الوضعي ودون وازع إلا الضمير الفردي.
وهذا الصراع هو نسخة في الواقع لما واجهته الدولة التونسية بعد الإستقلال فيما يسمى الصراع اليوسفي البورقيبي، أي بين التونسيين المتمسكين بهوية البلاد العربية الإسلامية التي قاوموا من أجلها الإستعمار، مقابل التونسيين المتطلعين للإندماج بعد الإستقلال الداخلي في منظومة الإتحاد الفرنسي من أجل بناء الدولة التونسية الجديدة التي تحلم فرنسا منذ ما قبل الإستعمار وربما من أيام الصليبية أن تعيدها – بزعم مؤرخيها – إلى لاتينيتها وإلى مسيحيتها القديمة، وفي أقل تقدير تطلعهم إلى تونسة ذات جذور متنوعة عرقية ودينية ولغوية مختلفة ضاربة في أعماق التاريخ ومتجانسة مع المعاصرة والحاضر.
ولكن بورقيبة الذي حاول أن يمسك العصا من الوسط، بعد منازعة الحكم الداخلي من يد خصومه لفائدة نفسه وأنصاره، لم يستطع في الأخير التحرر من تبعيته لفرنسا ولا استطاع في الأخير أن يعزل تونس عن محيطها العربي الإسلامي، فأفرخت إصلاحاته المملاة من تبعيته لفرنسا ردود فعل قوية، تمثلت في عدة إنتفاضات وإرهاصات وحدوية عربية وإسلامية للإنتقاض على حكمه، وتبلورت أخيراً في قيام تيار إسلامي، وريث للحزب الحر الدستوري الذي أسسه المرحوم الثعالبي وصحبه، للرجوع بتونس الى هويتها العربية الإسلامية، والتي حاول الاستعمار الفرنسي على مدى خمس وسبعين عاماً طمسها.
وبقي التنازع في ظل الديمقراطية بعده، أي بعد بورقيبة، يحاول أصحابه من طرف ومن آخر تجاوز مخلفات الإستعمار وثقافته العنصرية وتجاوز مناوراته ومؤامراته من أجل حمل تونس على البقاء رغم كل ما جرى، في بوتقة تأثير فرنسا ونفوذها. فأمكن بعد ثلاثين عاماً تقريباً الرجوع بتونس، في عهد مزالي وفي عهد بن علي، إلى حالة التناغم مع ذاتها الحقيقية العربية الإسلامية، وإزالة الحواجز النفسية التي خلقت التوتر بين تونس وبين شقيقاتها العربيات في المشرق والمغرب العربي في عهد بورقيبة بسبب علاقاته الوثيقة مع فرنسا.
ولم يكن بورقيبة في الواقع إلا محكوماً باتفاقيات الإستقلال الداخلي، التي تولى بموجبها السلطة في تونس كزعيم مطلق النفوذ. وهذه السياسية البورقيبية القائمة على أخذ تونس بعيداً عن كل تأثير مشرقي أو انتماء سابق قومي أو ديني، يحوّلها إلى تبعية زعامة أخرى غير زعامته، في ظل وحدة عربية إقليمية مفتوحة أو محدودة، بدأت تضعف في عهد خلَفه بن علي، لأن طبيعة الرجل السياسية مختلفة تماماً عن بورقيبة. ولكن بن علي ما أن رسخ قدمه في الحكم حتى أصبح يبحث خارج دائرة التأثير الفرنسي الذي كان بورقيبة يحظى به لتركيز حكمه، عن التأثير العربي الإسلامي للتعويض به، خاصة بعد أن نشطت سياسات دول الخليج في الإمتداد بتأثيرها المالي الى بلدان المغرب العربي وفي مقدمتها تونس.
الباجي كان أكثر إيماناً بالعروبة والإسلام من بورقيبة
وبطبيعة الحال تأثر حكمه بنزعة الإنفراد بالسلطة بالمشرق وبالنظام العسكري السائد هناك، فضلاً عن تكوينه هو الأصلي كعسكري، مكّنه من بسط نفوذه الكامل على الدولة والتحرر من بعض الإعتبارات التي كانت تقرأ لها بعض الدول الأجنبية حساباً خاصاً للإبقاء على رمزيتها وهيمنتها ووجودها في البلد، كالتحرر في العلاقات التجارية والتبادل الثقافي والعلمي الى أقصى الشرق، جعله يُقدم لأول مرة بعد الإستقلال في اختيار أراض شاسعة بقرطاج لبناء مسجد جامع ضخم عليها، ما أثار حفيظة واعتراض كثير من سدنة الآثار الرومانية وغيرها في تلك المنطقة، من الفرنكوفونيين ودعاة البورقيبية، باسم حماية التراث المشمولة برعاية اليونسكو، والذين لم يرو بعين مرضية قيام هذا المعلم الديني الذي تفوق صومعته علواً الكاتدرائية التي بنتها فرنسا قريباً من المكان عند احتلالها لتونس تكريماً لذكرى ملكها الصليبي القديس لويس التاسع، الذي ما أن وطأ أرض تونس حتى قضى نحبه هناك في إحدى المعارك
وكانت شخصية الزين أكثر إيماناً بالعروبة والإسلام من بورقيبة وإن كان لا يخالفه في الإصلاحات بخصوص الحقوق والحريات للمرأة لأسباب سياسية. مثله مثل الرئيس الباجي الذي كانت ثقافته الدينية المتينة في الصغر لها أكبر الأثر في تمسكه بالعروبة والإسلام، وصدق انتمائه إليهما، رغم التنقيص منه بأصله في الملاسنة التي حصلت بينه وبين بورقيبة لأسباب سياسية.
ويعزز ذلك في شخصيته تسميته بالباجي على إسم الولي الصالح المشهور من رموز المقاومة الصليبية سيدي أبي سعيد الباجي، المتوفى سنة 628 هـ، والمسماة باسمه الضاحية القريبة من قرطاج، والقائم مقامُه وضريحه هناك، بجانب الجامع المسمى باسمه. ومعاصره بل وتلميذه الأشهر سيدي أبو الحسن الشاذلي المتوفى سنة 656 هـ، الولي الصالح الآخر، الذي أوصى المرحوم الرئيس بالدفن الى جواره بالجلاز، وفي حوزة مَقامه، في تربة سماها باسمه تبركاً بالتقرب منه، وللعلاقة بين الأسماء في عائلته به وبسيدي بو سعيد الباجي مثله.
وكان الرئيس الباجي يردد على المسامع دائماً أنه قرأ في الكُتّاب وحفظ القرآن، ولا أحد يطعن في حفظه للقرآن الكريم بالرواية التي حفظها في الكتّاب، ردّاً على من صححه مرة في الإستشهاد بآية.
ومن النادر أن نجد في سنّه من بقي من خطبائنا السياسيين يستشهد بالقرآن الكريم وبالحديث الشريف وبالشعر البليغ. والحقيقة أننا فقدنا من وقت بعيد، بسبب الثقافة البورقيبية العلمانية، من يُحلّي خطابه أو كتاباته بمثل ما يحلي به الباجي كلامه. وحتى بورقيبة الذي كان من جيل الأوائل في الحركة الدستورية قلّ مع الزمن – وهو في السلطة – استشهاده بالقرآن والشعر في خطبه. وربما يذكرنا الأستاذ الباجي بالمرحومين صالح بن يوسف و علي البلهوان في ارتجالهما البديع بالعربية، فضلاً عن الكتابة بها.
فشخصية الباجي المتجذرة في الدين والعروبة هي التي مكنته من الحظوة الكبيرة في المناصب التي تولاها لدى نظرائه العرب المعروفين مثله بباعهم في الدفاع عن قيم الحضارة العربية الإسلامية وقضاياها.
ولكن اعتزازه بثقافته الفرنسية وتجذره كذلك فيها عبر سنوات طويلة من التلقي لعلومها في باريس، جعله مبجلاً في عيون الفرنسيين، لثقتهم بأن هذه الصلة اللغوية والثقافية لهم معه مع أصالته في لغته الأم واعتزاز بدينه، سيكسبهم أو قد أكسبتهم صديقاً في الحكم بعد ثورة عارمة كادت تأتي على مخلفات البورقيبية، من فرنكوفونية وإصلاحات إجتماعية، لفائدة المرأة والمساواة والحريات الفردية، ولكنه وهو الذي نقد بورقيبة في كتابه على تجاوزاته لبعض القيم والأعراف والتقاليد والمبادئ المحترمة جعله يمسك الإصلاحات التي يزمع إدخالها مدة حكمه – لو طالت أكثر – من الوسط بحيث لا تطرّف ولا تفريط، كما نرى في تحفّظه إزاء تقرير لجنة المساواة في الميراث بالنسبة للمرأة، في القانون المزمع اقتراح مشروع له وتقديمه إلى مجلس نواب الشعب، حتى يكون بإمكان كل مواطن أن يحترم ثقافته الدينية في قضية الميراث، فمثلما لليهود في وطنهم تونس حق العمل بتشريعهم في الزواج والميراث وغيره من الأحوال الشخصية، للمسلمين من باب أولى وأحرى ذلك، ولكن عموم المواطنين لهم أن يلتزموا بالقانون، فيما عدا ما يناقض إيمانهم الديني وحسن اعتقادهم في شريعتهم.
ولم يكن الأستاذ الباجي إلا مصيباً فيما قرره بشأن صلب مشروع القانون الرئاسي المتعلق بمسألة المساواة في الميراث الذي اقترحه على البرلمان، وموافقاً في الوقت نفسه للوائح الأممية والمواثيق التي صدّقت عليها الدولة التونسية، وبعضها في عهده وهو وزير أول، والتي لا تتعارض مع الدستور التونسي الجديد، الذي يَصدُق بحق نسبةُ كثير من الفضل له في إحكام نصوصه وفحوى بنوده، لوقفته بصفته زعيم المعارضة أثناء صياغته بالمجلس الوطني التأسيسي وإن كان هو خارج قبة البرلمان.
والذي يعرف الرجل عن قرب لا يخطئ التقدير في كونه لم يعارض النهضة مطلقاً كطرف مهم في معادلة الحكم الرشيد عندما عاد للسياسة بعد الثورة،كما فعل بورقيبة والزين. بل إيماناً منه بالديمقراطية التي استبعده بورقيبة ثم الزين من السلطة بسبب تطلعاته اليها في كل مرة يتولى فيها المسؤولية الى جانبهما.
تحالف الباجي مع النهضة لضمان القدْر الأدنى من التوافق لتأمين المسار الديمقراطي
ولذلك كرّس تحالفه مع النهضة في الحكم إيماناً بما تمنحه شرعية الإنتخابات الديمقراطية الحقيقية من استحقاق لأصحابه الفائزين بتمثيل الشعب في مجلس وتسيير الدولة بالتناغم من سائر أجهزتها ودواليبها.
وأمام ضغط خصومه من المنشقين عن حزبه بسب عدائهم الإيديولوجي أو الإنتهازي للنهضة للظفر دونها بمشاركته في الحكم، عوّل على تجاوب مع إرادته من جديد في ممارسة اختياره لرئيس الحكومة في شخص قريبه الشاب يوسف الشاهد، ولم يكن يتصور أن تخذله النهضة وتكسر خاطره في تجريده من مهمته لتقصيره بحقه وظهور عجزه أمامه عن تحقيق الأهداف التي رسمها له لما عينه على رأس الحكومة.
واعتبرنا القطيعة بين الباجي وبين النهضة التي أعلنها وقتها ونسب مسؤوليتها الى الشيخ راشد الغنوشي كطوفان نابل الذي شبهناه به وقتها، لأنه سيأخذ البلاد بتقديرنا الى أزمة سياسة جديدة، بسبب صعوبة وجود شخص في المستقبل، حسب المشهد السياسي القائم، يعوض تفهم الرئيس الباجي لتعاطيه الحكيم مع الديمقراطية مع ضمان القدْر الأدنى من التوافق لتأمين مسارها في البلاد نحو الاستقرار والأمن وإقامة العدالة وتسريع نسق التنمية والازدهار.
ومع كل أملنا بالمستقبل وتجديد ثقتنا في جميع الأطراف المنكبة على تأمين تداول سلمي ديمقراطي على السلطة، وأخذ الموعظة من سيرته وحكمته واعتداله ونفاذ بصيرته وطبيعته السلمية والتوافقية، نرجو أن تتكلّل الخطوات القادمة الإنتخابية بالفوز للأجدر بقيادة البلاد وحكمها بهمة عالية واستماتة ترسم أحسن صورة لتونس الوفية لأبنائها وزعمائها وشهدائها والباقية مدى الدهر على خطى عظمائها الذين بنوا أمجادها عبر القرون علماً وحضارة وأصالة.
* جامعي وكاتب ونائب سابق.
** العنوان الرئيسي والعناوين الفرعية من صياغة أسرة التحرير.
مقالات لنفس الكاتب بأنباء تونس :
شارك رأيك