الرئيسية » القصرين : سكان سفح جبل الشعانبي بين وطأة العزلة ومحاصرة الإرهاب

القصرين : سكان سفح جبل الشعانبي بين وطأة العزلة ومحاصرة الإرهاب

منذ بداية آفة الإرهاب في السنوات الأولى للثورة في تونس كان واضحا للحكومات المتعاقبة أهمية استرجاع وبسط الدولة لنفوذها في المناطق الريفية النائية الموجودة بعمق سفح جبل الشعانبي بولاية القصرين، و ذلك عبر إرساء البنية التحتية اللازمة لفك العزلة عنها ودمجها ضمن مثال التهيئة الوطنية للمجال الترابي التونسي لأنها تمثل الحل الجذري لمحاصرة الإرهاب على المدى البعيد.

بقلم فيروز الشاذلي

المناطق الريفية النائية الموجودة بعمق سفح جبل الشعانبي بولاية القصرين بالقرب من الحدود الجزائرية كفج بوحسين، بوحية ودرناية من الجانب الشرقي و الجنوبي لجبل الشعانبي أو أولاد منصور ودوار الحنادرة من الجانب الشمالي، لولا أخبار انفجارات الألغام بين الفينة و الأخرى ومستجدات المواجهات المسلحة التي تقوم بها القوات العسكرية و الأمنية للقضاء على المجموعات الإرهابية لكانت هذه المناطق ما زالت تلفها طيات النسيان منذ سنين طوال.

هذا النسيان و الجحود الذي عاشته طيلة عقود خلت جعل منها مناطق معزولة لا تتوفر على أبسط مقومات العيش، ربما الشيء الوحيد الذي نجحت فيه دولة الاستقلال في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة هو إيصال مرفق التعليم إلى هذه المناطق بإنشاء المدارس الابتدائية لكن بخلاف ذلك لم يتحقق شيء يذكر في عهد بن علي سوى التوسع في شبكة الكهرباء.

قسوة الطبيعة ووطأة العزلة كأنها لم تكن كافية على سكان هذه المناطق لتزيدهم آفة الإرهاب محاصرة من قبل الإرهابيين الذين اتخذوا من جبل الشعانبي معقلا لهم منذ السنوات الأولى للثورة ورغم المحاولات التي قامت بها الحكومات المتعاقبة من إعادة دمج هذه المناطق ضمن النسيج الحضري عبر المشاريع التنموية خاصة البنية التحتية إلا أن الصعوبات و التعطيلات جرّاء البيروقراطية الإدارية تضل العائق الأول أمام تنمية هذه المناطق وفتح الآفاق لسكانها.

سكان في مواجهة عزلة الطبيعة وخطر الإرهاب

في غياب موارد رزق بديلة كان يعوّل غالبية سكان هذه المناطق على أنشطة مرتبطة أساسا باستغلال الموارد الغابية كجمع النباتات التي تستعمل لغايات طبية وغيرها كالشيح، الزعتر و الكليل، لكي يتم تقطيره فيما بعد أو جمع ما تيسر من حبات “الزقوقو” ليتم بيعها في موسم المولد النبوي الشريف.

هذه الأنشطة جميعها أصبحت مستحيلة في ظل تمركز الإرهابيين بجبل الشعانبي في السنوات الفارطة بل أصبح كل من يزاول هذه الأنشطة يعرّض حياته لخطر محدق بسبب الألغام التي يقوم الإرهابيون بزرعها على تخوم الجبل لإعاقة تقدم القوات العسكرية أثناء التمشيط كما أن الخطر لا يقتصر على الألغام فقط بل تعمّد الإرهابيون في السنوات الأخيرة إلى الاعتداء بكل وحشية على أي راع يقوم بالرعي بأغنامه على سفح الجبل كما وقع مع المرحوم الأمجد القريري الذي تعرض لاعتداء وحشي من قبل مجموعة إرهابية اثر صعوده لرعي أغنامه في سفح جبل الشعانبي بمنطقة بوحية وقد توفي متأثرا بإصابات خطيرة على مستوى الأنف و الأذن و الرأس و الصدر و التي يبدو أنها جراء ممارسة التعذيب عليه من قبل عناصر الجماعات الإرهابية.

هذه الوضعية جعلت العديد من العائلات المتاخمة لسفح الجبل في وضعية لا يحسدون عليها خاصة أن بعض المساكن موجود في شعب داخل الجبل حيث يتطلب العبور لهذه المساكن تجاوز تلّة جبلية كاملة أو ما يعبر عنه بالعامية في هذه المناطق ( شُعبة) مما انجر عنه نزوح العديد من العائلات بسبب الأخطار المحدقة كما أن العائلات التي مازالت تسكن هذه المناطق أصبحت مقيّدة في تحركاتها مما تسبب لها في صعوبة كبرى في إيجاد بديل عن الأنشطة التقليدية وهو ما ينذر بازدياد وتيرة النزوح من هذه المناطق.

بنية تحتية لم تتغير منذ العشرية الأولى للاستقلال

المناطق الشاسعة المتاخمة لجبل الشعانبي و الغابات المحيطة تمسح إجمالا قرابة 100 كلم مربع وبحكم التغاضي عن ربطها بتهيئة المجال الوطني للطرقات وفك العزلة عن القرى الجبلية الحدودية لعدة عقود جعل منها مكانا مناسبا لتمترس المجموعات الإرهابية و اختيارها لجبل الشعانبي كمعقل رئيسي لها، فحتى الطرقات الموجودة سابقا في حالة يرثى لها وغير مطابقة للمواصفات من حيث خطورة المنعرجات، و أبرز مثال على ذلك الطريق الرابطة بين مدينة تلابت والمعبر الحدودي بوشبكة و التي تتميز بمنعرجات خطيرة جدا على مستوى منطقة درناية بحكم أن هذه الطريق تشق جبل درناية الذي يمثل إمتداد طبيعي لجبل الشعانبي، وهو ما يفسر استغلال الإرهابيين لصعوبة هذه التضاريس، حيث عمدوا إلى نصب كمائن على هذه الطريق على مستوى منطقة درناية للقوات الأمنية و الديوانية أسفر عن إستشهاد عبد المجيد الدبابي من سلك الديوانة سنة 2015، كما شهدت نفس المنطقة استشهاد الوكيل بالحرس الوطني أنيس الجلاصي يوم 10 ديسمبر 2012 أثناء تعقب مجموعة إرهابية.

البيروقراطية تعيق المشاريع التنموية لهذه المناطق

منذ بداية آفة الإرهاب في السنوات الأولى للثورة كان واضحا للحكومات المتعاقبة أهمية استرجاع وبسط الدولة لنفوذها في هذه المناطق عبر إرساء البنية التحتية اللازمة لفك العزلة عن هذه المناطق ودمجها ضمن مثال التهيئة الوطنية للمجال الترابي التونسي لأنها تمثل الحل الجذري لمحاصرة الإرهاب على المدى البعيد، فكان أهم مخطط هو إعادة إحياء ربط مختلف المناطق المتاخمة و المرتبطة بسلسلة جبال الشعانبي ببعضها البعض بواسطة شق طرق على أطراف جبل الشعانبي تمتد من درناية وبوحية وصولا إلى معتمدية حيدرة شمالا مرورا بمناطق جبلية نائية كالمنطقة الحدودية بودرياس و الطباقة بجبل الأجرد، لكن هذا التفكير الإستراتيجي لم يجد إلى حد الآن طريقه إلى التطبيق الكامل بالرغم من بداية الأشغال منذ عدة سنوات بسبب تعطل هذه المشاريع حيث أن شق هذه الطرق مازال للآن لم يتم إستكماله على مستوى ربط تلابت ببوشبكة و إزالة جميع المنعرجات الموجودة بجبل درناية بالرغم من محاولة ثلاثة ولاة تداولوا على رئاسة المجلس الجهوي بالقصرين وزيارتهم المتكررة لتفقد تقدم الأشغال، وهو ما يبرز صعوبة تقدم تنفيذ الأشغال العمومية بهذه المناطق بسبب البيروقراطية الإدارية.

الحل في دمج سكان هذه المناطق ضمن الدورة الاقتصادية

البنية التحتية خاصة الربط بالطرقات وفك العزلة عن المناطق الجبلية الحدودية له مفعول جد إيجابي من الجانب التنموي و الأمني، لكن هذا التمشي لا يمكن أن يكتمل إلا بتجسيد رؤية شاملة تعتمد على بعث دورة اقتصادية متكاملة بهذه المناطق ومربوطة بالنسيج الاقتصادي الوطني عبر حل أهم الإشكاليات التي تعترض سكان هذه المناطق خاصة الإشكاليات العقارية للأراضي المتاخمة للجبال كالتسجيل العقاري للتمكن من إستغلالها، كما أنه أصبح من الضروري فتح ملف الفجوات الغابية وكيفية استغلالها للأنشطة الفلاحية ذات الطابع الجبلي لتثمين دورها بما يسمح من تشغيل أكثر ما يمكن من اليد العاملة الفلاحية.

هذه الحلول التنموية إضافة للتسريع في تنفيذ مشاريع البنية الأساسية سوف تساهم في جعل هذه المناطق أكثر استقرارا و اندماجها مع النسيج الوطني سوف يجعل منها الدرع الأول في محاصرة ومواجهة الإرهاب.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.