في هذه الحلقة الرابعة من سيرته الذاتية التي ننشها تباعا الشاعر سوف عبيد يعود الذاكرة إلى سنوات الطفولة واكتشاف معنى العبادة والخشوع خلال صلاة العيد بجامع الزيتونة إلى جانب أبيه الذي كان يولي للواجبات الدينية مكانة هامة في حياة العائلة.
بقلم سوف عبيد
كنتُ في العاشرةِ عندما دَعاني أبي ليلةً أن أرافقَه في الصّباح الباكر إلى جامع الزّيتونةِ لأحضُر معهُ صلاة عيد الفطر فعلّمني الطّهارةَ والوُضوء وكيفيّة أداء الصّلاة وُقوفًا ورُكوعًا وسُجودا وجُلوسا وكم بِتُّ سعيدا ليلتَها لأنّي أحْسَستُ بشدّة قُربي من والدي عند معاملتِه لي معاملةَ الصّديق والرّفيق.
أدخُل المسجد ـ مثلمَا أوصاني أبي ـ برجلي اليُمنى أوّلا
يومَذاك نَهضنا باكرًا وحَرَصت أمّي على أناقتِنا بعنايةٍ فائقة، أبي في جُبّته البيضاءِ وشَاشِيته الحمراء وأنا في كسْوتي الإفرنجية الجديدة أحاول السّير على نَسَق خُطاهُ، فمَضينا نشُقّ أنهُج مدينةِ تونسَ العتيقةِ الخافتةِ الأنوار في غَبَش الفجر، سَعَينا باكرًا حِرصًا على صلاة الصّبح في الجامع، ومازلتُ أذكر شَذى العِطر الفائح ونحنُ نرتقي درجاتِ الباب الكبير من ناحية سُوق العطّارين، وما كدتُ أخطُو خُطواتٍ في صَحْن الجامع حتّى بَهرتني أضواءُ الثّريات المُتناسقةِ التي قابلتني من الأبواب وسُرعان ما اِنتبهتُ على صوت أبي ونحنُ نَدلُف إلى قاعة الصّلاة يطلُب منّي بِرفق قبل خُطوتين من العَتَبة الخشبية أن آخذ حذائي بِيَساري وأن أقابل بينَ أسْفليْ فَرْدَتَيْهِ ثمّ يُبادر بمُساعدتي في نَزعه وأدخُل ـ مثلمَا أوصاني ـ برجلي اليُمنى أوّلا، وتلكَ من آداب المسجد الرمزية واللطيفة فَوَطأتُ على وَجَلٍ حَصير المسجد وأنا مُنبهرٌ جَذلانُ.
رحماكَ يا أبي!
مازلتُ أذكُر كيفَ أجلستَني بقُربك بعدَ ركعتَيْ تَحيّةِ المَسجدِ، فها أنا اليوَم وبعد أكثرَ من خَمسين عامًا أعُودُ إلى نَفس المكان بالقُرب من السّاريةِ نَفسِها في جامع الزّيتونة الفَسيح البَهيّ فأشعُر كأنّكَ مازلتَ إلى جانبي بقُربي فتغمُرني السّكينةُ والمَسرّةُ وينتشِرُ مِن حَولي الأنسُ والطمأنينة.
رحماكَ يا أبي!
أنتَ الذي رأيتُ فيك الإسلام بصَفائهِ في بساطته وسَماحتهِ وأنتَ الذي رأيتُ فيكَ العَفافَ واللطفَ والكَدحَ والبَذل طول حياتِك ، لقَد كنتَ تُردّدُ دائمًا – اُدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمةِ والموعظةِ الحَسنة – و – اِدفعْ بالتي هيَ أحسنُ – و – لا يُؤمن أحدُكم حتّى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه – و ـ المُسلم مَنْ سَلِم النّاس مِن لسانِهِ ويدِهِ ـ.
رحماكَ يا أبي !
ما كدنا نَفرُغُ من صلاة الصّبح حتّىَ اِنبثَق صوتٌ لطيفٌ وديعٌ يُرتّل آياتِ القرآن الكريم في أناةٍ ووُضوح ، إنّه صوتُ الشّيخ عليّ البَرّاق ولمّا شعُر أبي بعدم راحتي في جِلستي على الحصير ساعدَني في كيْفيّة التَربّع ثمّ أسندني إليه فأخذتْني إغفاءةٌ خفيفةٌ لم يَقطعْ حلاوتَها إلا اِرتفاعُ الأصواتِ وهيَ تُسبّح وتُحَمدِل وتُكبّر في تناغُم واِنسجام حتّى فُتِح البابُ المُحَاذي للمِحراب على مصراعيْهِ وخَرج منه الإمامُ مَحفوفا بالشّيوخ وهُمْ في تَمام اللّباس التّقليديّ التّونسي بعِماماتِهم الكبيرةِ وقد جعلوا فوقَها تَواشيحَ تَنسدِل على أكتافِهم حمراءَ خضراءَ وصفراءَ فبدَا أولئِكَ الشّيوخُ مَوكبًا مُهيبًا في وَقار وخُشوع وفي بَهرجة لم ترُقني، ثمّ سكتَ الجَمعُ عن الإنشادِ بعد جِدّهم وحَماسِهم حينمَا وقف الإمامُ فِي المِحراب فقُمنا صفًّا صفًّا لصلاةِ العيد.
حينمَا وقف الإمامُ فِي المِحراب فقُمنا صفًّا صفًّا لصلاةِ العيد.
بعدَ التّسليم رأيتُه يقفُ ويُسَوّي مِن هِندامِه ثُمّ يَخطو في أناةٍ مُتّجِهًا إلى المنْبر ذِي النّقائش الهندسِيّة البديعةِ الأشكال ويأخُذُ عَصًا على يَمينه بجانب المِنبر ويركُزُها عَلى دَرجتِهِ الأولى ثُمّ يَصعَد مُتَمهّلا في بُرنسِهِ الأبيض الخفيفِ، تلك العصا ـ زعمُوا ـ أنّها نفسُ عَصا الإمام اِبن عرْفة الذي قال عندمَا تولّى إمامة الجامع.
يَرفعُ الدّهـــــرُ أنـــــاسًــــا * بعد أن كانُوا سُـــفالـــهْ
مَن لهُ في الغَيبِ شــيءٌ * لمْ يَمُتْ حتّى ينالــــــــــهْ
مازلتُ أذكُرُ ـ ونحنُ في طريق الإيّاب وقد خالفْنا به طريقَ الذّهاب ـ حديث أبي بشغَف عن اِبن عرْفة وإخلاصِه في طلب العلم والتّدريس كامل حياتِه مع تواضُعه، لم أكن وقتَها أعلمُ يا أبتاهُ أنّك تُوصيني من حيثُ لمْ أدرِ باِتّباع سِيرتِهِ.
عند سَحور أوّل يوم في رمضان
يخرج أبي من بيتنا
يقف عند العَتبة
تمامًا كما يستقبل الضّيف يقول
ــ أهلا وسهلا
مرحبا و بالبركة
عند آخر مَغربٍ في رمضان
يخرج أيضا أبي
كما يودّع أعزّ الضّيوف :
ــ بالسّلامة و إلى اللّقاء
منذ عام
ودّع أبي رمضان
من عادته يسير معه بعد الباب
خطوتين
أو ثلاثا
هذه السّنة
سار خَطواتٍ أكثرَ
إلى ما بعد الزّقاق
فوقفت عند العتبة… أنتظر
رمضانُ عاد
أبي … لم يعُدْ.
شارك رأيك