الرئيسية » سيرة ذاتية – القطار الذي فات : المقال الثاني – “ليلة السّفر”

سيرة ذاتية – القطار الذي فات : المقال الثاني – “ليلة السّفر”

ضاحية سيدي رزيق جنوب العاصمة تونس.

نواصل في هذا المقال الثاني نشر السيرة الذاتية للشاعر والكاتب سوف عبيد و يروي فيه مغادرته مسقط رأسه في غمراسن في أقصى الجنوب التونسي إلى سيدي رزيق في الضاحية الجنوبية لتونس العاصمة حيث سيواصل دراسته بالمدرسة الإعدادية بنهج المغرب.

بقلم سُوف عبيد

ليلةُ السّفر… ما أطولها من ليلةٍ تلك التي بِتُّ فيها إلى جانب أمّي في غار حُوشنا ببئر الكرمة مُنتظرًا الفجرَ وأزيز مُحرّك سيّارة الأجرة التي ستحملني إلى تونس للدّراسة حيث سأقيم لدى عائلة عمّي عبد الرحمان التي لم أكن أعرف منها أحدا إلا جدّتي فقد ذهبتُ إلى تونس في الرّابعة من عُمري للعلاج من رَمدٍ كاد يُتلف بصري لولا حرص والدي الذي عالجني لدى أمهر طبيب في تونس حيث أقمت بضعة أشهر لدى عائلة عمّه سيدي سالم بالقرب من حي باب الجد.

رحماك يا أُميمة

لكأنّ فراقك مكتوب على جبيني منذ صغري فنشأتُ على تجذّر الحنين إليك… حنينٌ ضرب عروقه عميقا في كياني باكرا… باكرًا في ذلك الفجر من خريف عام 1958 ركبت سيّارة الأجرة التي وقفت أمّي بعيدا عنها على اِستحياء مُلتفّةً في مُلاءتها وبُخنقها وأذكر أنها دفعتني بشيء من الشدّة قائلة بهمس وقد لاحظت تعلقّي بها:
ـ اِذهبْ… لا تبكِ… الرّجال لا يبكون.
ـ بل الرجال يبكون يا أمّي
وما أحرّ بكاءهم
يبكون في حُرقة وصمت
يبكون يا أمّي … في كبرياء
رحماك يا أمي!

لماذا لم تتركيني أضمّك عند ذلك الفجر وأزيز محرّك السيّارة يُفرقع صمت المدى مع نباح الكلاب… لا شكّ أنك أردتِ أن لا أبدو أمام أعيُن الركاب طفلا مُدلّلا بل أحببتِ أن يروني رجلا شديد المِراس فقد أطعمتِنِي في عشاء تلك الليلة من كبدِ جَمل وقلب ذئب… لذلك ربّما وقتها، لم أبك وإليكِ لم ألتفت، لكنّي حملت مُحيّاك حيثُما حللتُ…

رحماك يا أمّي

ليلةَ سَفره
كان في السّادسةِ
في العَشاء
نَاولتْهُ أمُّهُ شِواءً مِنْ كبِدِ جَمَل
ومنْ قلبِ ذئبٍ
كيْ يَكونَ جَلَدًا صَبُورًا
فَطِنًا ذكيًّا
لمْ يبكِ عندَ الوداع في ذلكَ الفَجر
لمْ تَجرِ لهُ دَمعةٌ أبَدًا
جَرى ما جرى
رأى ما رأى
فَتحمّل الجَملُ ولا يومًا اِشتكى
إنّما لم تبدُ للذّئب مخالبُ
…ولا أنيابٌ
تعلّم الصّبيُّ من الألف إلى الياء
غير أنّه يامّا
كانَ دائمًا
!أوّلَ الأغْبياءْ

لا أتذكّر الوقائعَ والمشاهد التي قطعتْ فيها سيّارةُ الأجرة المسافةَ من غُمراسن في أقصى الجنوب إلى ضاحية ــ سيدي رزيق ـ فقد اِستغرقتُ في نوم عميق وعندما فتحتُ عيني رأيتُ فيلاتٍ ذاتَ حدائقَ غَنّاءٍ على جانبيْ طريق خالية من الحركة وكانت السيّارة تنعطف حينا وتتمهّل أحيانا ليسأل السّائق أحد المارّين فشعرت أنّني قاربت على الوصول.

مازلتُ أتذكّر لحظة حيرتي وذهولي حينما نزلت أمام حديقة رأيت فيها أنواعا شتّى من الزهور والأشجار أبصرتُها لأول مرة فعرفت بعدئذ أنها الموز والإجاص والياسمين والبنفسج… فأين أنا من جنوب الجفاف الذي يُخيّم على القِفار حيثما جال البصر في مداه لولا بعض شجيرات التّين والزيتون والنخل هنا وهناك أو في بطون الأودية، شُجيرات تضرب جذورها عميقا وبعيدا بين مفاصل الصخور تتلمّس الثّرى فتستسقي بعروقها ما يتسنّى لها من رَشْح بقايا الغُدران التي تجود بها قطرات السّحب مرّة أو مرتين طيلة أعوام عِجاف ليس لها من رَواء إلا الصّبرُ والاِنتظار.

أصابني ساعتَها، وأنا أتابع الاِخضرار من زجاج النافذة، ذهولٌ واِندهاش فقد اِنتقلتُ بين فجر وغروبه من شَظف البداوة إلى تَرقّي الحضارة إذْ عندما نزلتُ وحطّت رجلي على الإسفلت اللامع النّظيف كِدت أخلع حذائي لأمشي حافيا كعادتنا في ربوع غُمراسن عندما نجلس على حصير أو زربية… وسِرتُ في ممشى مُعشّب بين صَفّين من بديع ألوان الزهور … مَن أوصلني ؟ مَن اِستقبلني ؟ كيف نِمتُ ؟ لا أتذكّر من كل ذلك شيئا.

أتذكّر فقط أنه من الغدِ وجدت نفسي أقف في الصفّ أنتظر الدخول إلى قسم السنة الأولى مع أطفال على غاية من حُسن الهندام وتبدو على وجوههم النّعمة والرفاهة ونظراتُهم ترشقني في اِستغراب وبشيء من الاِزدراء أيضا فلا شكّ أنهم تساءلوا عمّن يكون هذا الولد ذو البَشَرة التي لفحتها الشّمسُ وظل مُنزويا باهتا في كل ما حوله ؟

جلستُ على مقعد إلى الطاولة قبل الأخيرة في الصفّ الذي أمام مكتب المُعلّم ومازلت أتذكّر مشاكسة تلميذ مشاغب جلس إلى جانبي إذْ مرةً يجذبني من كُمّي ومرة تتسلل يدُه إلى جيبي فكنتُ على مدى الحصّة أدفعُه عنّي من دون أن يشعر المعلم الذي بدا على غاية من اللطف والأناقة في كسوته السّوداء وقميصه الأبيض وربطةِ عُنقه المتناسقة الألوان بين الأحمر والأسود والأبيض وكان يتنقّل بين الصفوف بخطاه الوئيدة فيئزّ حذاؤه الأسود اللمّاع حتى إذا دنا منّي سألني عن اِسمي ليسجّلني في دفتر المناداة فتردّدتُ ثم تَمْتمتُ ولم أستطع نطقه إلا بعد تلعثم فاِنفجر التلاميذ ضاحكين ومتعجّبين من اِسمي الغريب فلم أكد أُفصحُ عنه إلا بعد جُهد جهيد فقد اِنسدّ النّفَسُ وثَقُلت الحروفُ على لساني لكأنها من الصّخر وتكوّرت وتكرّرت مرّاتٍ عديدةً بين حلقي وشفتي وزادَ من اِرتباكي ضحكُ التلاميذ وتهكّمُهم بالرغم من تصدّي ـ سِي المنّوبي ـ لهم

المدرسة الاعدادية نهج المغرب بتونس العاصمة.

لم تُجدِ نفعًا يا أمّي تلك الألسِنةُ السّبعةُ التي أكلتُها في عيد الأضحى لتُطلق عُقدةَ لساني

لقيتُ ـ سيّدي ـ ذاك بعد سنوات عديدة في النّادي الثقافي بضاحية ـ الزهراء ـ بمناسبة أمسية ثقافية حيث كان من بين الحاضرين أيضا المُمثّلُ القدير محمد بن علي والشّاعر عبدالرحمان الكبلوطي فَحَيّيتُ سِي المنّوبي بما يستحقّ من اِحترام وتقدير وشُكر ووفاء وكم كنتُ سعيدا بلقائه خاصّة وقد رأيته في صحّة وعافية.

أذكر بكل إكبار المعلمبن الذين كان لهم الفضلُ في فتح طرقات المعرفة أمامي فسِرتُ فيها بشّغف ومُتعة فأولئك المعلمون هم الذين شجّعوني وصَبروا عليَّ وتحملوا حُمقي ونزَقي أحيانا ولئن لقِيتُ من بعضهم بعضَ شدّة فإنّما هي صادرةٌ عن حرص ومحبّة.

في المرحلة الاِبتدائية درّسني العربيّة السيّد ـ شَعَار ـ في مدرسة نهج المغرب بتونس العاصمة وكان يتميّز بلباسه التقليديّ التونسيّ من الشّاشية إلى الجُبة والبُرنس وكان حريصًا على دروس النّحو ورسم الهمزة ودرّسني مسيو ـ بُوليلو ـ الفرنسية وقد كان حريصا على حُسن هندامنا ودرّسني مسيُو ـ سعادة ـ الحساب ـ وبفضل هؤلاء المعلّمين الأفذاذ وغيرهم اِكتسبتُ أسُسًا متينةً في مواد العربية والفرنسية والحساب.

ـ يتبع ـ

المقالات السابقة :

شارك رأيك

Your email address will not be published.