في هذه الحلقة الثامنة من سيرته الذاتية التي ننشرها تباعا يتحدث الشاعر سوف عبيد عن علاقة المثقف بالأوضاع السياسية في بلاده و في العالم و بعلاقته بالسلطة عموما وهذه العلاقة موسومة عادة بمزيج من التنافر والتبعية. لكن الكاتب مهما كان يتأثر بالرغم عنه بالأوضاع العامة المحيطة به إن تماهى أو تنافر مع الواقع.
بقلم سوف عبيد
بينما نحن في درس العربية مع الأستاذ سيدي البشير العريبي بمعهد الصّادقية إذ تناهت إلى سَمعنا أصوات جَلبة فأغلق الأستاذ الباب ولكن سرعان ما اِقتحمت جماعة من التلاميذ مع شّبان آخرين القسم صارخين ـ فلسطين !! فلسطين !! ـ وطلبوا منّا المغادرة والخروج معهم للتّنديد بإسرائيل، كان ذلك يوم 5 أو 6 جوان سنة 1967عندما اِنطلقت الهَبّةُ مع تلاميذ المعاهد المجاورة بقيادة طلبة كلية الآداب فسلكنا مُستنفِرين الناس أسواقَ المدينة العتيقة المحيطة بجامع الزيتونة حتى اِلتقت الجموع عند باب البحر حيث ـ وقتذاك ـ مقرّات بعض السّفارات الأوروبية والمركز الثقافي الأمريكي فهشّمت الجموع ما هشّمت وأحرقت ما أحرقت ولم يصدّها في آخر المساء إلا نفر قليل من الحرس الوطني المعزّز ببعض عمّال الميناء والشركات العامة حاملين هراوات يهشّون به علينا في الهواء ولكن نلنا منها بعد ذلك في التحرّكات الجامعية المختلفة ما ناله طبل العيد.
حركة “شعراء الرّيح الإبداعية”
بعد يوم أو يومين من تلك الأحداث كنتُ مع الواقفين على جنبات الطرقات نُودّع فِرق الجيش التونسي بالهتافات وبعُلب الأجبان والسّردين والشكلاطة أيضا وكان في ظننا أنه سيشارك في الحرب لتحرير فلسطين غير أنه ما كاد يصل إلى الحدود حتى قُضي الأمر وحلّت الهزيمة النكراء فلم يصدّقها حينذاك أغلب الناس الذين كانوا يستمعون إلى بعض الإذاعات ذات الحماسة الجوفاء والبلاغات الكاذبة.
في ظروف تلك الأحداث العربية الأليمة وفي خضمّ اِحتجاجات الشباب في العالم ضدّ حرب الفيتنام وضدّ الميز العنصري في جنوب إفريقيا ومع بروز الحركات التحررية في شتّى أنحاء العالم تنامى لديّ الاِقتناع بضرورة تجاوز السائد من الأنظمة والأحزاب والنظريات الجاهزة فقد أثبت الواقع فشلها وخواءها من خلال عديد التجارب التي لم تخلّف في بلدانها شرقا وغربا إلا الاِستبداد والقهر والفقر وراح ضحيتها عديد الشعوب فاِنبريتُ أبحث عن الجديد المنشود وقد طلبته في الشّعر لذلك كنت من الفاعلين في ظهور جماعة “شعراء الرّيح الإبداعية” التي خالفت جماعة شعراء القيروان ذات الأبعاد التراثية والقومية العربية وجماعة المنحى الواقعي ذات المنطلقات الاِشتراكية وذلك بمناسبة ملتقى الشعر التونسي الذي اِنعقد بالمركز الثقافي بالحمامات سنة 1983 وقد عبّر “شعراء الرّيح الإبداعية” عن رفضهم للقوالب الإديولوجية في تلك السنوات التي شهدت بعدئذ اِنهيار الأنظمة القائمة فيها على الأحزاب المستبدّة… لقد كان اِستشرافنا صحيحا…
لم تمض إلا سنوات قليلة بعد ملتقى الحمامات للشّعر حتّى تمّ إبعاد بورقيبة عن الحكم وتولّي بن على مقاليد البلاد فعشنا على إثر ذلك فترة وردية من حرية التعبير والتنظيم إذ اِزدهرت الحركة الثقافية في مختلف الجمعيات ودور الثقافة والمهرجانات وفي شتّى الجهات حتى النائية منها وفي تلك الطفرة من الأنشطة ترشّحتُ لعضوية الهيئة المديرة لاتحاد الكتّاب التونسيين باِقتراح من الأديب محمد العروسي المطوي فتحصّلت على أكثر الأصوات ونلت بالانتخاب أيضا مسؤولية الأمين العام وكانت تلك الهيئة تضمّ الأدباء محمد العروسي المطوي رئيسا والميداني بن صالح نائبا له والهاشمي بلوزة أمين المال وضمّت أيضا الأدباء أبا زيان السعدي وجلول عزونة وسمير العيادي وعبد الحميد خريف ونور الدين بن بلقاسم والتابعي الأخضر والطيب الفقيه.
اِستقلالية المثقف العربي عن السلطة أمر نسبيّ جدا
عملت تلك الهيئة خاصة على تنشيط النوادي في مقر الاِتحاد وعلى اِنتظام إصدار مجلة “المسار” وعلى فتح الفروع في الجهات التي يتوفّر فيها الحدّ الأدنى من الأعضاء وعلى المشاركة في اللجان الخاصة بالكتاب والسّينما والمسرح ضمن وزارة الثقافة وقد جعلنا هدفنا الأكبر هو اِستضافة مؤتمر الاِتحاد العام للأدباء العرب ومهرجان الشعر العربي بتونس وقد ضمّ اِتحاد الكتّاب التونسيين وقتذاك أغلبية الأدباء والشعراء على اِختلاف مراجعهم الفكرية والأدبية وعلى تنوّع ألوانهم السياسية وتوالي أجيالهم ممّا أتاح لي التعرّف على الأدباء التونسيين وربط صداقات مع الكثير منهم وفي ذلك السّياق من النّشاط الزّاخر ومن بينه اِنعقاد مؤتمر الأدباء العرب ونيل تونس رئاسته في شخص الأديب محمد العروسي المطوي ثمّ تنظيم الملتقى الأوّل للشعراء العرب جاءتني دعوة من رئاسة الجمهورية لحضور موكب اليوم الوطني للثقافة الذي اِعتبرناه حينذاك مكسبا للثقافة والمثقّفين ونحن نعيش غمرة حركة النشر واللقاءات الأدبية بعد سنوات عديدة من الكبت والتهميش التي لم يستفد منها إلا الأدباء والمثقّفون المُوالون للنّظام ولكن لم أكن أدري وأنا أدخل قصر قرطاج ثمّ وأنا أغادره بعد أن صافح بن علي الجميع ـ أنّ حليمة ستعود بعد سنوات إلى عادتها القديمة فقد أضحى حول نظام ـ العهد الجديد ـ زمرةٌ كبيرة من المثقفين والأدباء والفنانين الموالين هي التي اِستفادت من مجالات وزارة الثقافة ودعمها واِحتكرت مواردها وأنشطتها فلم تُبق لنا إلا النّزر القليل الذي لا يفي بتحقيق برامجنا ضمن بعض الجمعيات والنوادي الثقافية تلك التي سَنة بعد سنة بدأت تنغلق على عدد قليل من المنتسبين والروّاد وصارت برامجها تسير على إيقاع الجوقة الرّسمية شأن جميع الأنشطة الثقافية وغيرها في بقية البلدان العربية التي زرت الكثير منها فاِستنتجتُ أن مسألة اِستقلالية المثقف العربي عن السلطة هي أمر نسبيّ جدا وحتى بعض المثقفين والأدباء الذين تمكنوا من الإقامة في البلدان الغربية نجدهم موالين لهذه الجهة أو تلك سواء كانت منظمات وجمعيات أو لوبيّات وغيرها فليس من باب الخير المحض والمحبّة الصّافية للثقافة تحتضنهم تلك الدول وتدعمهم وتمنحهم الاِمتيازات والجوائز.
من الأحسن بالنسبة للكثير من الكتاب أن نقرأ لهم ولا نعرفهم
كانت مرحلة اِنتسابي إلى الهيئة المديرة لاِتحاد الكتّاب التونسيين في مناسبتين الأولى في فترة رئاسة الأديب محمد العروسي المطوي والثانية في فترة رئاسة الشاعر الميداني بن صالح قد أتاحت لي الفرصة لمعرفة أحوال الأدباء والمثقفين التونسيين والعرب من غير نصوصهم أيضا فوقفتُ على أمزجتهم وعلى بعض تفاصيل سلوكياتهم لذلك اِستنتجتُ أنّه من الأحسن بالنسبة للكثير منهم أن نقرأ لهم ولا نعرفهم عن كثب فعدد هائل من الأدباء والشّعراء والمثقّفين يكتبون ويصرّحون بعكس ما يفعلون لأن غايتهم تتمثّل في كسب المال و الشّهرة أونيل الحظوة والمنافع أمّا القِيمُ والمبادئ فإنهّا لا تبدو لديهم إلا في نصوصهم … كلام… كلام …
الزّمن كفيل وحده بوضع كل أديب و شاعر في مقامه الجدير به.
شارك رأيك