الرئيسية » أزمة التشغيل في تونس: بين الضغط الاجتماعي وقابلية الإنجاز

أزمة التشغيل في تونس: بين الضغط الاجتماعي وقابلية الإنجاز

أصحاب شهائد معطلون عن العمل يحتجون أمام وزارة التشغيل.

الحكومات المتعاقبة في تونس لم تولي أولوية للتشغيل وخاصة تشغيل أصحاب الشهائد العليا والذين طالت بطالتهم وطال انتظارهم وخاب أملهم في أهداف الثورة والوعود المؤجلة. حيث لم نر برامج استشرافية تولي التشغيل الأهمية التي يستحقها ولا استراتيجيات لامتصاص البطالة إذا اعتبرنا أن الهدف الأسمى للدولة هو توفير العيش الكريم للفرد.

بقلم أنور بن حسين

الحق في الشغل أولوية إنسانية:

تكفل المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لكل شخص “حق في العمل وفي حرية اختيار عمله وفي شروط عمل عادلة ومرضية، وفي الحماية من البطالة”. وتنص المادة 1 من اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 22 لسنة 1964 على واجب الدول العمل على “توفير فرص عمل لجميع المحتاجين للعمل والباحثين عنه”. وبذلك فإن الحق في العمل باعتباره من حقوق الإنسان الملحة يجعل الدولة مطالبة بتوفير العيش الكريم لرعاياها بما يكفل مستوى معيشيا لائقا.

وعلى الصعيد الوطني في تونس لم تولي الحكومات المتعاقبة أولوية للتشغيل وخاصة تشغيل أصحاب الشهائد العليا والذين طالت بطالتهم وطال انتظارهم وخاب أملهم في أهداف الثورة والوعود المؤجلة. حيث لم نر برامج استشرافية تولي التشغيل الأهمية التي يستحقها ولا استراتيجيات لامتصاص البطالة إذا اعتبرنا أن الهدف الأسمى للدولة هو توفير العيش الكريم للفرد. وأثبت الزمن والتجربة السياسية ما بعد الثورة أن الحلول المؤقتة لا تفتح أفاقا ولا تؤسس لمنظومة اجتماعية متوازنة ولا تساهم في تحقيق التنمية الشاملة التي لا تقتصر على مجرد البحث عن استثمارات جديدة أو أجنبية أو توفير فرص عمل هشة، بل ضرورة أن يكون هذا الأداء مرتبطا بعوامل النمو الاقتصادي والتنمية المستديمة والتي تعود على الفرد بالفائدة وتضمن له الحد الأدنى من القدرة الشرائية والقدرة على الاستمرار في الحياة، ولا نعني بذلك سد رمق العيش بل كل ما تتطلبه الحياة من احتياجات يومية منها الضرورية مثل الأكل والملبس والسكن والصحة والتعليم ومنها التي تهدف إلى تحقيق الحد الأدنى من الرفاه وبالتالي تنمي الإحساس بالرضا والانتماء والمساهمة الفاعلة في الحياة الاجتماعية والدورة الاقتصادية. فالدولة مطالبة بعقد أخلاقي يتمثل في توفير الحاجيات الأساسية للفرد، للذين لا يشاركون في الأنشطة الاقتصادية، فما بالك بأشخاص لا يتمتعون بشيء من هذا ويواجهون الفقر والبطالة.

واليوم تشهد تونس عددا من الوقفات الاحتجاجية من الذين طالت بطالتهم أكثر من 10 سنوات والذين يحملون شهائد عليا ويطالبون بالانتداب و الإدماج المهني في الوظيفة العمومية وهو حق لا يقبل التنازل والمساومات وذلك لعجز القطاع الخاص على استيعاب البطالة وتوفير الحق الأدنى لمنظوريه، ما عدى بعض المؤسسات في وظائف معينة ومحدودة. وهذا يعود إلى فشل سياسات التشغيل في البلاد.

التنسيقيات الجهوية وطموحات المعطلين:

بدأت فكرة التنسيقيات في شهر أكتوبر 2019 وذلك بعد مرور تسع سنوات على الثورة ولم يقع تحقيق الكثير من الأهداف السامية منها الحق في الكرامة الذي لا يتحقق إلا بالتشغيل. وأوضحت السيدة سماح عمارة في حوار معها صاحبة مبادرة الانتداب حقي والمنسقة العامة الوطنية بأن التنسيقية التي بدأت كفكرة في أكتوبر 2019 والتي قامت إثرها بالاتصال بمعطل عن كل ولاية لتكوين التنسيقيات الجهوية هي مبادرة بعد فشل الحكومات المتعاقبة في رد الاعتبار لأصحاب الشهادات العليا الذين طالت بطالتهم، وأكدت أن النضال سيتواصل كحق مدني واجتماعي وأن هذا النشاط لا ينطوي تحت أي راية سياسية ولكن التنسيقية ترحب بكل المتعاطفين مع مطالبهم من حقوقيين وسياسيين ومجتمع مدني ومستقلين ذلك أن ملف التشغيل مسألة حاسمة لا تقبل التأجيل والتسويف وهو موضوع تحول إلى قضية رأي عام وأن التصعيد وارد في حالة عدم التزام الأطراف المعنية بتطبيق القانون عدد 38. وأضافت أنهم على خطى تقنين نشاط التنسيقيات من خلال تكوين جمعية تحت اسم “الجمعية الوطنية الإنتداب حقي” مما سيساهم في تنظيم الصفوف وتأطير العمل المدني وتجنب بعض التحركات الغير بريئة لإجهاض مطالب المعطلين عن العمل.

وهناك بعض الناشطين في هذا الحراك الاجتماعي عبروا عن استيائهم من تجاهل مطالبهم رغم الخطوة التشريعية المتمثلة في القانون عدد 38 والتي لم يقع تبنيها من السلطة التنفيذية على محمل الجد واعتبارها أولوية مطلقة. فقد صرح مهدي العياشي وهو من الفاعلين في التنسيقية الجهوية بسوسة بأن السياسات الحالية غير مبنية على رؤية واضحة والمطالب التي نناضل من أجلها هي حقوق مشروعة لكل تونسي وأن فرص الشغل المتوفرة هي هشة ولا تحقق المطلوب وعلى المسؤولين أن يضعوا هذه المطالب ضمن الأولويات الملحة لتحقيق أهداف ثورة 14 جانفي.

بينما أبرز محمد بلال الشعابي بأن الاحتجاجات السلمية متواصلة ويطالب الإعلام بمزيد تسليط الضوء على تحركات المعطلين دون تسييس الحراك الاجتماعي ويعتبر أن الهدف واحد لذلك ليس هناك داع لتأسيس تنسيقيات موازية فالمجال مفتوح للجميع دون حسابات ضيقة لأن الهدف واحد.

كما قامت التنسيقيات منذ أواخر 2019 إلى اليوم بعديد الوقفات الاحتجاجية الوطنية أولها كان يوم 19 ديسمبر 2019 وبعشر وقفات احتجاجية في سنة 2020 أولها يوم 16 جانفي وآخرها يوم 3 ديسمبر بباردو. السؤال الذي يطرح نفسه إلى متى ستتواصل هذه الاحتجاجات؟ ومتى سيبدأ تطبيق قانون الانتداب من قبل الحكومة ليقف هذا النزيف؟

قانون 38 المتعلق بأحكام استثنائية للانتداب في القطاع العمومي:

يتضمن القانون 38 المتعلق بالانتدابات الاستثنائية لحاملي الشهادات العليا 6 فصولا تضبط حقوق هذه الشريحة في حق الانتداب إلا أن هذا القانون عام ويحتاج إلى تفصيل وتوضيح منها معايير الانتداب ووضع منصة رقمية تتضمن كل حاملي الشهادات العليا المعطلين عن العمل لتكون الأمور أكثر شفافية وقابلة للمراقبة كما وقع التنصيص على ذلك بالفصل الثاني من القانون بأن “الانتداب سيكون مباشرا لمن طالت بطالتهم 10 سنوات والمسجلين بمكاتب التشغيل ويتم ترتيبهم تفاضليا وفق مقياسي سن التخرج وسنة التخرج”.

والفصل الثالث ينص على أن “الانتداب سيكون على دفعات سنوية لفرد من كل عائلة جميع أفرادها عاطلون عن العمل”، ولكن هناك فرق بين عائلة متكونة من فردين وعائلة متكونة من خمسة أفراد أو أكثر وهذه تفاصيل مهمة يجب توضيحها حتى لا يختلط الحابل بالنابل.

أما الفصل الرابع فيخصص نسبة 5% من الانتدابات السنوية بالوظيفة العمومية تسند لفائدة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخصوصية، وهو أمر محمود لإدماجهم في الحياة الاقتصادية.بينما الفصلان الخامس والسادس يتعلقان بأمور ترتيبية لا علاقة لها بمسألة الانتداب ولذلك من الوجيه إضافة لائحة أو نصوص أخرى تفصيلية ليكون القانون أكثر فاعلية وخال من الثغرات لما يراه البعض من ضبابية في التعميم وهو ما أشارت إليه أميرة شرف الدين عضو مجلس النواب في تدوينة على صفحتها الرسمية يوم 7 ديسمبر 2020 حيث اعتبرت أن الفصل 9 الذي وقع تمريره بقانون الميزانية والذي ينص على أنه ستخصص حصة من المقرر انتدابهم في الوظيفة العمومية لسنة 2021 سيخصص منها نصيب للمعطلين الذين يشملهم القانون عدد 38 والذي وإن كان خطوة ايجابية لكنها غير كافية بل هو فخ أريد به كسب نقاط ليس إلا ورغم أنهم قدموا حلولا لتشغيل 10000 معطلا في مفتتح 2021 لكنهم عوموا المسألة لذلك فإنها لن تندفع خلف ما يروجون له في الحكومة والبعض من حزامها وستواصل اصطفافها والدفاع عن المعطلين دون التلاعب بمآسيهم.

الأرقام ونسبة البطالة تفرض إعداد برنامج وطني في المخطط الخماسي القادم:

حسب الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل حول مؤشرات التشغيل والبطالة تراجعت في الثلاثي الثالث من سنة 2020 من 18% إلى 16,2%، أما عدد المعطلين المسجلين فبلغ 676,2 ألف من مجموع السكان النشيطين وهو عدد مرتفع نسبيا إذا قارناه بعدد السكان النشيطين الذي يبلغ 4188,1 ألف حسب المعهد الوطني للإحصاء في أخر تحيين في نوفمبر 2020.

هذه الأرقام تدعو إلى حوار وطني حول أفاق التشغيل وتدخل كل القوى الفاعلة من مؤسسات الحكومة والاتحاد التونسي للشغل ومنظمة الأعراف والمجتمع المدني لخلق آليات جديدة وبرامج تساعد على الإدماج الفاعل في الحياة الاقتصادية دون الإخلال بتوازنات التنمية وهذا ممكن إذا تضافرت الجهود بعيدا عن الحسابات الضيقة.

كما يجب مراجعة الدخل الفردي الأدنى بما يتماشى مع متطلبات المرحلة فحسب الأمر الحكومي عدد 454 لسنة 2019 الذي يتعلق بضبط الآجر الأدنى المضمون لمختلف المهن في القطاعات غير الفلاحية فان الأجر الأدنى لنظام عمل 40 ساعة يبلغ 343 دينارا ولا يتجاوز 403 دينارا بالنسبة لنظام 48 ساعة عمل في الأسبوع، في حين أن رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد صرح في إحدى خطاباته إن متوسط الدخل في تونس يعادل ما قيمته 2000 دينارا في الشهر. وهذا يمثل تباينا طبقيا يجب مراجعته فالأجر الأدنى يفترض أن يتماشى مع القدرة الشرائية للمواطن التي أصبحت متدهورة في السنوات الأخيرة. بينما في أوروبا يمثل الأجر الأدنى 70% من متوسط الدخل الفردي وعلى هذا الأساس إذا اعتبرنا متوسط الدخل في الوظيفة العمومية 1200 دينارا وأن الحد الأدنى لا يجوز أن يقل عن 50% من متوسط الدخل فان الأجر الأدنى يصبح 600 دينارا. ويمكن أن نقوم بمقارنة مع بلد المغرب الشقيق حيث أن الأجر الأدنى المضمون ارتفع إلى 2500 درهم ما يعادل 830 دينارا تونسيا مع العلم أن مستوى المعيشة متقارب.

والدراسات الاجتماعية تساعد على إيجاد حلول مع مجهودات الخبراء الاقتصاديين وخبراء المالية لأنه لو كان الأجر الأدنى محترما في تونس لما شهدنا عديد الاحتجاجات والإضرابات ولما رأينا اليوم أصحاب الشهادات العليا يطالبون بالانتداب في الوظيفة العمومية هروبا من الاستغلال والتهميش في القطاع الخاص ومن التشغيل الهش الذي لا يضمن كرامة الفرد لذلك من الضروري الاستعداد للمرحلة القادمة من خلال برامج تضع في عين الاعتبار متطلبات المرحلة وتعد مخططا يضع موازنة بين الاقتصادي و الاجتماعي.

كاتب وناشط مدني.

شارك رأيك

Your email address will not be published.