بعد مرور أكثر من ستة أشهر بقي المرسوم الخاص بنظام المبادر الذاتي حبرا على ورق حيث لم تقم الحكومة بإصدار الأوامر التطبيقية والترتيبية الموضحة بدقة لمجالات تطبيقه وشروط الانتفاع به وفي هذا السياق لم تكن السلطة التشريعية أفضل حالا حيث أنها لم تطرح هذا المرسوم للمناقشة والمصادقة حتى يكتسب صفة القانون باعتبار صدوره في إطار التفويض الممنوح لرئيس الحكومة طبق الفصل 70 من الدستور ليبقى حتى الان نظام المبادر الذاتي معلقا.
بقلم طه عبد القادر العلوش *
بعد ما يقارب العشر سنوات على اندلاع ثورة الحرية والكرامة والتي كان التشغيل من أبرز مطالبها، لا تزال هذه المعضلة تراوح مكانها إن لم نقل أن الأمور قد تفاقمت، حيث بلغت نسبة البطالة في حدود الربع الثالث من السنة المنقضية 16,2% بعد إن كانت في حدود 14% سنة 2010.
إن هذا التقهقر يعود بالأساس لعجز العقل السياسي للحكومات المتعاقبة عن فهم متطلبات السوق وطرح تشخيص موضوعي للعجز الهيكلي في رافعات التشغيل، حيث كان الاعتماد بالأساس على تشغيلية الدولة من خلال الوظيفة العمومية والمؤسسات التابعة لها مما أثقل كاهلها بعبء مالي جعلها مهددة في كينونتها وديمومته أو من جهة أخرى أدى هذا التمشي على امتداد العشرية الأخيرة إلى تقليص من إمكانيات الدولة في الاستثمار في البنية الأساسية المحفزة للقطاع الخاص والمبادرة الذاتية.
نظام المبادر الذاتي يجب أن ينتفع بنظام ضريبي واجتماعي خاص
بدأنا نتلمس طريق التغير الاستراتيجي في تناول هذا التحدي بصدور المرسوم عدد 33 لسنة 2020 بالرائد الرسمي للبلاد التونسية والمتعلق بنظام المبادر الذاتي ويقصد ب”المبادر الذاتي” على معنى هذا المرسوم كل شخص طبيعي يحمل الجنسية التونسّية يمارس نشاطا بصفة فردية في قطاع الصناعة أو الفلاحة أو التجارة أو الخدمات أو الصناعات التقليدية أو الحرف على أن لا يتجاوز رقم معاملاته السنوي 75 ألف دينار تونسي.
يمكن هذا النظام المستفيدين منه من الانتفاع بنظام ضريبي واجتماعي خاص حيث يتيح لهم مسك محاسبة مبسطة وخاضعة لضريبة مخفضة تتمثل في دفع مساهمة وحيدة تكون محررة من الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين ومن الأداء على القيمة المضافة وأيضا من المساهمة في منظومة الضمان الاجتماعي. هذا ويكون الدفع بصفة ميسرة على أربع أقساط على امتداد السنة مستوجبة لكل ثلاثي ومقرونة بتصريح طوعي للرقم المعاملات المحقق في الإبان.
نظام المبادر الذاتي يساهم في مكافحة الاقتصاد غير المنظم
تتنزل جملة الامتيازات الممنوحة للمبادر الذاتي في إطار مكافحة الاقتصاد غير المنظم عبر تقديم فرصة لكل من يمارس نشاط اقتصادي غير مصرح به بالاندماج في الاقتصاد الحقيقي والمشاركة الفعلية في تثمين القيمة المضافة لبعض أنشطة الاقتصاد التحتي.
ومن ناحية أخرى يهدف هذا المرسوم لنشر ثقافة المبادرة والتعويل على الذات وفتح أفق للتجديد والابتكار من خلال الإحاطة بالباعثين الشبان من حرفين ومهنين ومسدي خدمات ومستقلين* ومرافقتهم في السنوات الأولى لإطلاق مشاريعهم عبر توفير مناخ ملائم للمخاطرة حيث يتم إعفاؤهم من المساهمة المستوجب للسنة الأولى والتي يتكفل الصندوق الوطني للتشغيل بتسديدها وهو ما من شأنه الترفيع في حظوظ استمرار المشاريع ونموها مستقبلا.
بعد مرور أكثر من ستة أشهر بقي هذا المرسوم حبرا على ورق حيث لم تقم الحكومة بإصدار الأوامر التطبيقية والترتيبية الموضحة بدقة لمجالات تطبيقه وشروط الانتفاع به وفي هذا السياق لم تكن السلطة التشريعية أفضل حالا حيث أنها لم تطرح هذا المرسوم للمناقشة والمصادقة حتى يكتسب صفة القانون باعتبار صدوره في إطار التفويض الممنوح لرئيس الحكومة طبق الفصل 70 من الدستور ليبقى حتى الان نظام المبادر الذاتي معلقا.
قانون تشغيل العاطلين عن العمل خطوة شعبوية بامتياز
في المقابل صادق البرلمان في نفس الفترة على القانون عدد 38 لسنة 2020 والمتعلق بتشغيل العاطلين عن العمل منذ أكثر من 10سنوات في الوظيفة العمومية. وهو ما يعد خطوة شعبوية بامتياز وحملة انتخابية سابقة لأوانها أقدم عليها طيف واسع من نواب الشعب بمختلف الكتل البرلمانية. وتبنت حكومة المشيشي الشروع في هذه الانتدابات على دفوعات بداية من سنة 2021 حيث أكدت الوزيرة المكلفة بالوظيفة العمومية حسناء بن سليمان حرص الحكومة على المضي قدما في تنفيذ هذا القانون دون إقصاء للمنتفعين بالرغم من ارتفاع عددهم وكلفتهم على المجموعة الوطنية. فكيف تترك الحكومة وسيلة للدفع بالمبادرة الخاصة و إنعاش خزينتها عبر توسيع قاعدة دافعي الضرائب و إنقاذ الصناديق الاجتماعية بإدماج ما يقارب المليون شخص في الدورة الاقتصادية الرسمية دون تكلفة مالية إضافية على ميزانية الدولة لتختار عوض ذلك خلق وظائف وهمية في القطاع العمومي بدون حاجة حقيقية أو جدوى اقتصادية عبر تشغيل عشرات الآلاف دون إعادة تكوين أو رسكلة. وهذا بالإضافة إلى التكلفة المالية الباهظة التي ستزيد الضغط على كتلة الأجور و نسبتها من الناتج الداخلي الخام مما سيضعف موقف الحكومة التونسّية في المفاوضات المقبلة مع المانحين الدوليين وعلى رأسهم صندوق النقد الدولي. وكأننا لم نستفيد شيئا من دروس الماضي من خلال اعتماد سياسة الهروب إلى الأمام و تعميق جراح المديونية العمومية التي ستؤدي حتما إلي مزيد ارتهان السيادة الوطنية.
إن تصاعد النزعات الشعبوية على الساحة الوطنية وافتقار الخيارات الحكومية للعقلانية الباردة في ظل غياب خطاب مضاد في الجوهر يصارح الشعب بالإمكانيات الحقيقية للدولة سيعجل من احتدام الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وهو منذر بسقوط السقف على الجميع.
* Freelancer.
شارك رأيك