تشهد أغلب مناطق البلاد حالات من الفوضى والشغب والتمرد، ويتزامن هذا الغليان الشعبي المنفلت مع فشل السلطة في تثبيت هيبة الدولة وسلطة القانون من جهة، وحل المشاكل والأزمات التي أدخلت البلاد في متاهات العجز الكامل من جهة أخرى.
بقلم مصطفى عطية *
هذا العجز ساهم بشكل كبير في تفاقم مخاطر الإرهاب والفساد بجميع أشكالهما، إرهاب الجماعات التكفيرية المنظمة، وإرهاب المحتالين والمهربين وقطاع الطرق، وإرهاب المجرمين والخارجين عن القانون، وإرهاب المحرضين على الفوضى والعصيان والفتن، وفساد اللوبيات التي نخرت هياكل البلاد.
لا وجود لحقوق تحمي الإرهابيين والفاسدين والمخربين
يعلم القائمون على البلاد من سلط تنفيذية وتشريعية بالخصوص أن هذه الوضعية تفرض معالجة أكثر عمقا وشمولية لمسألة صيانة الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، خاصة وأن الأوضاع العالمية السائدة طرحت مقاربات جديدة في التعامل مع هذه المسألة، إذ تخلت كبرى الديمقراطيات في العالم عن تشبثها بالدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان إذا ما كان ذلك سيؤدي إلى المس بأمنها القومي.
وفي هذا السياق، وعلى سبيل المثال، شددت فرنسا من مراقبة المشبوهين، وٱتخذت ديمقراطيات أوروبية أخرى إجراءات مماثلة وصلت إلى حد حظر العديد من الجمعيات والتيارات الدينية التي كانت تدعمها وتحميها وتشجعها على النشاط منذ سنوات قليلة، ومازالت قولة رئيس حكومة إنقلترا الأسبق دافيد كامرون: “لا تحدثوني عن حقوق الإنسان في ظل تعرض أمننا القومي للخطر” تقرع الأذهان وتدعو الغافلين إلى مراجعة مواقفهم وحساباتهم قبل فوات الأوان.
لكن المشكلة في تونس هي أننا لم نستوعب الدرس رغم تعدد العمليات الإرهابية وجرائم التحيل والتهريب والسرقة والإغتصاب والقتل المتعمد والعصيان والتمرد والتخريب والتحريض على الفوضى وتفاقم تداعياتها الكارثية على الأوضاع الأمنية والإقتصادية والإجتماعية في البلاد، ومازالت بعض القوى والتيارات السياسية والحقوقية تعارض إتخاذ إجراءات ردعية حاسمة ضد الإرهابيين ومموليهم وداعميهم والمروجين لمقارباتهم التكفيرية وكل المجرمين والخارجين عن القانون والفاسدين والخربين والمتمردين بدعوى ان تلك الإجراءات تهدد الحريات الأساسية وتعيد إنتاج التعسف والتسلط والكبت وجميع مكونات الديكتاتورية!
وهنا أساسا تكمن المعضلة الكبرى، أعني معضلة المتاجرة بحقوق الإنسان على حساب أمن الشعب والوطن، والتي على السلط أن تواجهها بحكمة وواقعية وحزم لتضمن ظروف النجاح لإصلاحاتها بدءا بوضع حد نهائي لكل محاولات تعطيل الإنتاج وإيقاف عمل المرافق الحيوية ومطاردة المتمردين بقوة القانون وتضييق الخناق على المجرمين والقتلة وتفعيل القوانين تفعيلا عمليا بعيدا عن الحسابات الضيقة التي تتعارض مع المصالح العليا للوطن.
تأملوا وقائع التاريخ ولا تحركوا النعرات النائمة
صحيح إننا لسنا “أمة وسط وٱعتدال وتسامح” كما دأبوا على تلقيننا منذ عشرات السنين، وقد أثبتت عشرية الجمر الأخيرة هذه الحقيقة بعد إنفجار ما كان مكبوتا وممنوعا ومعتما عليه لغياب الردع وٱنتشار الفوضى والإنفلات والمزايدات الشعبوية الرخيصة، وصحيح، أيضا، إنه لو عدنا إلى تاربخنا وتمعنا في الفترات الحالكة منه، وهي عديدة ومرعبة، وكم حاولنا إخفاءها وطمسها والتعتيم عليها، فسوف نصاب بالصدمة، فقبل الفتح الإسلامي إرتمى الشعب التونسي بين أحضان المسيحية الدوناتية والأريوسية وتدثر بتطرفهما، وفي العصر الإسلامي انساق وراء مشعوذ من الخوارج يدعى أبا يزيد مخلد الخارجي ويلقب “تحقيرا وٱستخفافا” ب”صاحب الحمار”.
يقول إبن حماد عن هذا الثائر المشعوذ : “كان يرى الجمع بين الأختين بملك اليمين”، وأورد عماد الدين إدريس في “عيون الأخبار وفنون الآثار” إن صبية قالت لأبيها: ” أبتاه أقتلني وٱستر علي وعلى نفسك وهذا أبو يزيد قد إفتضني وأختي على فراش واحدة.” وأجاب صاحب الحمار على هذه التهمة بالقول: “إن في مذهبي أن أجمع الأخوات المملوكات، وهاتان مملوكتان من سبايا وذراري المشركين”. ويضيف إبن حماد أن أبا عمار الأعمى عاتبه : “إفتضضت الأبكار حتى أحبلت ثماني عشرة إمرأة هن الآن مقيمات في معسكرك”.
وقد دفع الحقد الأعمى بمراد الثالث إلى دك العديد من المدن انتقاما وثأرا كذلك فعل علي باشا والصادق باي وغيرهم، لقد عانت بلادنا طويلا من الأحقاد حتى جاء الإستقلال وٱنبعثت الدولة الحديثة بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كرس جهده للقضاء هلى هذه الظاهرة الدنيئة وحقق في ذلك نجاحات كبيرة يشهد بها القاصي والداني.
الآن وقد أطل أحفاد صاحب الحمار ومراد الثالث وأبي الحسن الحفصي والصادق باي والجنرال زروق وكل الحاقدين المسكونين بنزعة الشر من وراء دخان النيران الملتهبة فإن الحريق سيأتي على الأخضر واليابس إن لم يهرع الوطنيون الحقيقيون لإطفائه.
شارك رأيك