الرئيسية » تونس : رهان قيس سعيّد بين مطرقة التاريخ وسندان الواقع

تونس : رهان قيس سعيّد بين مطرقة التاريخ وسندان الواقع

العقل الجمعي للتونسيين بقي حبيس عدم الحسم… من حنبعل برقا قديمًا الى قيس سعيد حاضرًا لا زالت تتقاذفنا أمواج التاريخ على تضاريس الجغرافيا دون جدوى تذكر.

بعد مرور شهرين على دخول الفصل 80 من الدستور حيز النفاذ و إعلان الاحراءات الاستثنائية من قبل الرئيس قيس سعيّد، بقي الوضع السياسي في تونس يراوح مكانه… صحيح أننا لم نعد إلى الوراء آنيا ولكننا لم نتقدم أيضًا ولو قيد أنملة. فحتى الخطاب الأخير للرئيس سعيّد بسيدي بوزيد مساء أول أمس الأثنين 20 سبتمبر 2021 وإن أعطى الخطوط العريضة للمرحلة القادمة إلا انّه بقي يحمل غموضًا وإبهامًا من حيث التفصيل وآليات التنفيذ.

بقلم طه عبد القادر العلوش *

أصبح من الجلّي الآن أننا أمام رئيس غير تقليدي: فالإنصات أو حتى الاستماع للنصح والمشورة ليسا من أبرز مميّزاته وخاصياته ومنه قررنا إذن أن نعمل نحن بنصيحته الشهيرة فقلّبنا بين صفحات كتب التاريخ وخرائط الجغرافيا لعلّنا نقدر على إيصال الرسالة ونتوفق في بسط الفكرة بشكل مختلف هذه المرّة.

الطريق الى الهاوية مليء بالنوايا الحسنة

أعطي الشعب اللعب والخبز يتخلى عن حقوقه تجسيدا لشعار الجمهورية الرومانية ” خبز و ترفيه” حيث كان الشعب الروماني قديما يختار من يحكمه، فينتخب عددا من الأشخاص ليكونوا أعضاءً في مجلس الشيّوخ. هذا المجلس كان يقوم بالتصويت على القرارات الهامة في الدولة ويتم اتخاذ القرار بالأغلبية.

كان حينها يوليوس قيصر قائداً عسكرياً مظّفرًا بالانتصارات نجح في كسب حب جنوده و نجح في هزيمة شعوب الغال العدو الأزلي لروما فطمع في أن ينال منصب ديكتاتور روما تقديراً لإنجازاته العسكرية.

اجتمع مجلس الشيوخ و قرر منح قيصر صِفة ديكتاتور روما. اكتشف قيصر بعد حين أن لقب ديكتاتور ليس سوى لقبا شرفيا و أنّه سيظّل مجرد قائد للجيوش. لن يتغير النظام في روما و لن ينفرد أحدهم بالسلطة.

هنا استغل قيصر حب جنوده له و حب الشعب له فحاصر مجلس الشيوخ بجنوده و استولي على السلطة و صار الحاكم الأوحد لروما. أنفق قيصر علي الشعب و على جنوده ببذخ أحيانا كان يصل للإنفاق من ماله الخاص وإطعام الشعب القمح من مزارعه الخاصة. لم يكن يبغي أي شيء سوى السلطة وقد نالها، بعدها لا يهمّه المال ولا أي شيء آخر. المشكلة أن الشعب تغاضى عن حقوقه و مصلحته الواضحة بشكل بديهي و استسلم للطاغية.

فنّ السيطرة على الشعوب التي لا عقل لها

في عهد الطاغية نيرون الامبراطور الروماني أرسل سفينة محملة بالذهب والفِضّة إلى مصر لتأتي برمال لتفرش في ساحة المسارح التي تقام عليها ألعاب القتل و نزالات المصارعة مثل التقاتل بين العبيد و التقاتل بين البشر و الحيوانات المفترسة.

بينما كانت هذه السفن في البحر قامت الجماهير بثورة لأن روما كانت تمر بمجاعة. لم تكن هناك حبّة قمح واحدة في البلاد وثارت الدهماء في الشوارع وحطموا المدينة.

حين وصلت السفن إلى مصر علم كبير الضبّاط المسؤول عن القافلة بما حدث فسأل الحاكم الروماني لمصر عما يجب أن يفعله، هل يشتري بالمال قمحاً ليعود به لينقذ روما أم ينفِذ ما أمر به قيصر و يعود بالرمال. تعجب الحاكم من السؤال الذي لا يصِحُ أن يصدر عن ضابط في مثل هذه المكانة الكبيرة. بالطبع عليه أن يعود لقيصر بأسرع ما يمكن محملاً بكل ما يمكنه من الرمال!

المرعب في الأمر أنه حين عاد بالرمال و بدأت الألعاب هدأ الشعب و انتهت الثورة. لقد انشغل الناس في الألعاب وهوس الفرجة و نسوا ما يمُرّون به من مجاعة.

جوفينال، أحد الشعراء الرومان قال أن كل ما يهم الشعب هو الخبز و ألعاب السيرك ، حتي الخبز صار شيئاً هامشياً هنا و المهم بالنسبة للشعب هو ألعاب السيرك و القتال فقط.

لا زالت هذه الاستراتيجية تستخدم للسيطرة على الشعوب الغافلة إلى يومنا هذا أعطي الشعوب الفرجة و الترفيه، و قدِّم بعض المنح و الوعود الفارغة ثم افعل ما شئت بها…

في تاريخ الإمبراطورية القرطاجيّة و قائدها العظيم حنبعل

أثناء الحرب البونيّة الثانية و في إطار حملته الشهيرة على روما لم يكن حنبعل ليترك لليأس فرصة ليجد مكانا له في قلوب رجاله، بل استطرد بخطبة عصماء شحذ فيها الهمم، وهو يعرف ما في نفوسهم منذ زمن بعيد قائلا: “يا رجالي… أيها الجنود البواسل… في حالة وصولنا لنهر ‘البو’ Po قبل فوات الأوان، نستطيع أن نمسك بتلابيب جيوش الغَزو الرومانية داخل إيطاليا نفسها، فلا تصبح مدينة قرطاج ميدانا للحرب، وحينئذ تقع تكاليف الحرب ولأول مرّة على الرومان وعلى بلادهم فيكتوون بآلامها، ويحرقون بنارها… فالسرعة ثم السرعة، فإما أن تقهر عدوك، وإما أن تقبل مصير المقهورين.”

في الأخير يبقى الهدف الأساسي من نقل واستعراض هذه الأحداث والشواهد التاريخية هو العبرة المستفادة من أخطاء الأمم السابقة التي تسيّدت قمة الحضارة الإنسانيّة عبر التاريخ .فكما قال العلامة ابن خلدون “إنّ التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق”.

غير أن العقل الجمعي لهذا البلد بقي حبيس عدم الحسم… من حنبعل برقا قديمًا الى قيس سعيد حاضرًا فلا زالت تتقاذفنا أمواج التاريخ على تضاريس الجغرافيا دون جدوى تذكر مهما تغيرت مجريات الأحداث و سياقات الشخصيّات المحورية حيث تبقى حتميّة النتيجة واحدة أي من الثورة غير المكتملة إلى تصحيح المسار غير المكتمل… ليكرر المشهد الختامي ذاته مرارا و كأننا داخل حلقة مفرغة يعيد فيها التاريخ نفسه… هاته المرة إن لم يكون في شكل مهزلة فسيكون للأسف في شكل مأساة. لذا أرجو استخلاص الدروس سريعا و تدارك الأمر عاجلاً عبر حلّ هذه العقدة الأزلية.

* طبيب ونشاط سياسي.

شارك رأيك

Your email address will not be published.