رجاء بن سلامة: المنصة الرقمية لدار الكتب الوطنيّة واجهة ثقافيّة لتونس ومرجعا لكلّ الباحثين والقرّاء من كلّ أنحاء العالم

في الكلمة التي القتها بمناسبة إطلاق المنصّة الرّقميّة لدار الكتب الوطنيّة، استعرضت المديرة العامة رجاء بن سلامة تاريخ هذه المؤسسة العريقة، مفيدة بأن رصيد المكتبة تجاوزفي العامّ مليوني مجلّدا، نصفها باللّغة العربية، والنّصف الآخر بالفرنسيّة والإيطاليّة والعبريّة والعربيّة التّونسيّة المسمّاة judéo arabe والألمانيّة وغير ذلك من اللّغات.

واشارت بن سلامة إإلى ان المكتبة اختارت طريق رقمنة الرّصيد التّونسيّ إيمانا منها بأنّ الرّقمنة لا تساعد فحسب على الحوكمة وتعصير أساليب العمل بمختلف هياكل المكتبة وتطوير الخدمات لفائدة القرّاء، بل إنّها إذا ما اقترنت بالإتاحة تمكّن من اللامركزية ومن توفير قاعدة بيانات وغيرها من الايجابيات.

وفيما يلي كلمة المديرة العامة لدار الكتب الوطنيّة رجاء بن سلامة:

يطيب لي أن أرحّب بكم جميعا بدار الكتب الوطنية، لنحتفل معا بإطلاق منصّتها الجديدة، بعد أربع سنوات من الجدّ والكدّ والعمل التّشاركيّ. ويطيب لي أوّلا أن أقدّم لمحة تاريخيّة عن هذه المؤسّسة. فقد تزامن بعثها مع مؤسسات أخرى للذّاكرة وللدّولة الحديثة هي المتحف العلويّ الذي سيصبح متحف باردو (تأسس سنة 1888)، وما كان يسمّى “خزينة مكاتيب الدّولة” ويسمّى اليوم مؤسّسة الأرشيف الوطنيّ (تأسس سنة 1874). أنشئت المكتبة سنة 1885 بمقتضى مرسوم من الباي علي باشا الثالث وتغيّرت تسمياتها ومقرّاتها، وارتقت إلى مكانة المكتبة الوطنيّة إثر الاستقلال، لكنّها حافظت داخل خزائنها على مجموعات قديمة منها ما يعود إلى “المكتبة العبدلّيّة” التي أوقفها السّلطان الحفصيّ أبو عبد اللّه محمّد بن حسن في بداية القرن السّادس عشر على جامع الزّيتونة، ومنها ما يعود إلى عهد المشير أحمد باشا باي، ونقصد بذلك المكتبة الأحمديّة التي تبرّع بها المشير إلى الجامع نفسه في سنة 1840، عاهدا بحفظها إلى المؤرّخ ابن أبي الضّياف. وتكوّن رصيد المكتبة من مجموعات متعاقبة ومختلفة، منها مجموعة الدّبلوماسيّ وعالم الآثار شارل تيسّو، ومكتبة الفيلسوف الألمانيّ فرانز روزنزفايغ التي دخلت تونس إبّان الحرب العالميّة الثّانية واقتنتها الدّولة التّونسيّة، ومجموعات حسن حسني عبد الوهّاب وعثمان الكعّاك. وهذان العلمان بذلا جهودا في تعزيز الرّصيد العربيّ للمكتبة وتونستها بعد أن كان اسمها “المكتبة الفرنسيّة”، وأشرف عليها فرنسيّون في عهد الحماية. وسمح الأمر الرئاسي المؤرخ في 7 سبتمبر 1967 بتجميع المخطوطات التي كانت موجودة في مختلف المكتبات والزوايا والمساجد بالجهات باستثناء المكتبة العتيقة بالقيروان (التي أعيدت إلى القيروان).

وقد تجاوز رصيد المكتبة العامّ مليوني مجلّدا، نصفها باللّغة العربية، والنّصف الآخر بالفرنسيّة والإيطاليّة والعبريّة والعربيّة التّونسيّة المسمّاة judéo arabe والألمانيّة وغير ذلك من اللّغات.

حقّقت المكتبة نقلة نوعيّة بتدشين المقرّ الجديد، سنة 2005، فقد أصبحت دار الكتب الوطنية التونسية مضاهية للمكتبات الوطنيّة العالميّة من حيث التقنيات والمواصفات وظروف الاتصال والحفظ (توفّر أجهزة مراقبة الرّطوبة والحرارة)، ومن حيث اعتمادها على نظام معلومات. ورغم تقلّص عدد القراء في الكثير من المكتبات الوطنية، فإنّ مكتبتنا يزداد روّادها يوما بعد يوم، وهي اليوم تستقبل بين 500 و700 قارئا في اليوم، منهم مغاربيّون وأجانب، وتوفّر خدمة نسخ المخطوطات للباحثين من كلّ بلدان العالم.

وقد سلكت المكتبة طريق رقمنة الرّصيد التّونسيّ إيمانا منها بأنّ الرّقمنة لا تساعد فحسب على الحوكمة وتعصير أساليب العمل بمختلف هياكل المكتبة وتطوير الخدمات لفائدة القرّاء، بل إنّها إذا ما اقترنت بالإتاحة تمكّن من :

1. تحقيق اللاّمركزيّة الثّقافيّة وديمقراطيّة المعرفة، بما أنّ الرّصيد المرقمن يصل إلى كلّ المبحرين في كلّ مكان عبر شبكة الأنترنت.

2. توفير قواعد البيانات والموارد التي تساعد على البحث العلميّ. فالأطروحة التي كانت في تسعينات القرن المنصرم تستغرق عشر سنوات من العمل يمكن اليوم بفضل الموارد الرقمية أن تستغرق ثلاث سنوات فحسب.

3. حفظ الوثائق المهدّدة بالتّلف، بتوفير نسخة منها غير أصلية للتّداول. وأكثر الوثائق عرضة إلى خطر التلاشي هي الدوريات القديمة، نظرا إلى نسبة الحموضة العالية لورقها.

4. تثمين التراث التونسي المكتوب، وجعل عناصر الثّقافة التّونسيّة قريبة من الأطفال والشّباب. فللرقمنة بعد إدماجيّ، لأن اعتمادها يجعل الشّباب فاعلا ومتقبّلا، نظرا إلى أنّ الأجيال الجديدة لم تتربّ على الورق والكتابة بالقلم، وليست مخضرمة مثل أجيالنا نحن الذين انتقلنا من الحبر والورق إلى الكمبيوتر.

5. المسألة الأخرى التي جعلتنا نضع الرّقمنة والإتاحة وإنتاج المحتويات من أهدافنا الاستراتيجية، هي أنّ شبكة الأنترنيت لم تعد وسيلة تواصل أو ظاهرة ثانويّة بل أصبحت وجودا في العالم. ولذلك ربطنا إطلاق هذه المنصة بما يسمّى السيادة الرقمية. إننا نساهم في إرساء هذه السيادة بجعل صور الوثائق التّونسيّة متوفّرة ومقدّمة بدقّة في واجهة مؤسّسة وطنيّة عموميّة، هي المكتبة، بالإضافة إلى منحها وجودا عالميّا بجعلها متاحة على الشّبكة.

ونحن واعون بأنّ الطّوفان الرّقمي قادم، وأنّ الشبكة أصبحت عالما يعجّ بالمعلومات والمعطيات الغثّة والسّمينة، ولذلك فإنّ من مهامّ المكتبات الوطنية الجديدة إرشاد المبحرين إلى أفضلها، ومساهمتها في إنتاج الأفضل والأدقّ والأكثر علميّة وبيداغوجيّة.

لكلّ هذه الأسباب عملت المكتبة بالتّوازي على رقمنة رصيدها وعلى اقتناء منظومة معلوماتية متطوّرة تمكّن من إنشاء مكتبة رقمية لرصيدها التراثي. ونحن نحتفل اليوم بإطلاق هذه المنظومة على الأنترنيت لتكون واجهة ثقافيّة من واجهات البلاد، ومرجعا ومعينا لكلّ الباحثين والقرّاء، من كلّ أنحاء العالم.

تتكون هذه المنظومة من مجموعة برمجيات متكاملة ومتعددة اللغات مع إلزامية اللغة العربية.

وتقوم على نظام معلوماتي توثيقي متعدّد اللغات والأبجديات لمعالجة المجموعات. يحتوي هذا النّظام على أكثر من 500.000 تسجيلة لوثائق مختلفة (كتب، دوريات، مخطوطات …) و10.000 وثيقة مرقمنة، وبوابة توثيقية للنشر والبحث في محتوى وموارد المكتبة الرقمية على الإنترنت وكذلك الموارد المجمعة.

توفر البوابة أربع بوابات فرعية، تقدم كلّ منها خدمة بحث وفقًا لتوجهات محددة.

جميع البوابات مترابطة بطريقة منهجية وتلقائية وتستفيد جميعها من الوصول الموحد إلى نفس قاعدة البيانات الوثائقية والرقمية بطريقة شفافة وموحدة.

وتعمل المكتبة في الوقت نفسه على إطلاق النّواة الأولى من متحف التّراث المكتوب، تقدّم فيها بثلاث لغات ما يزيد عن 700 كتابا ودوريّة ومخطوطا ونقيشة تمثّل الإنتاج الفكريّ والأدبيّ والفنّيّ بتونس من العصر اللّوبيّ والبونيقيّ إلى اليوم. كما تعمل على توفير قاعدة بيانات يمكن فيها البحث في النّصوص التّونسيّة، وتعاقدت في هذا الصّدد مع عشرات الباحثين الشّبّان لرقن النّصوص الموجودة في الميدان العامّ. وستكون منصّة هذا المتحف رافدا من روافد المنظومة الجديدة.

أخيرا، لم يكن بالإمكان إنجاز هذا المشروع الذي نرجو أن يمثّل نقلة نوعيّة في ثقافة البلاد وفي البحث العلميّ حولها، لولا توفّر جهود وإرادات صادقة لأشخاص أودّ أن أتقدّم إليهم بأسمى عبارات الشّكر. فالشّكر كلّ الشّكر للسّيّد عادل براهم، المدير العامّ بوزارة المالية لإيمانه بمشاريعنا ودعمه لها. والشّكر كذلك للسّادة والسيدات مراقبي المصاريف العمومية لتعاونهم، واجتهادهم معنا في تجاوز المصاعب الإداريّة الكثيرة والجمّة، والشّكر أيضا لفنّانين، أحدهما جلال بن سعد فقد تطوّع لمدّنا بصور حرفيّة للمكتبة، نؤثث بها بوّابة المنصّة، وثانيهما هو ماهر مظفّر، فقد عمل في ظرف وجيز على إعداد الميثاق البصريّ للمكتبة، ونجح في إنشاء رمز جديد يجمع بين المعاصرة والإحالة اللّطيفة إلى أحد اجمل مصاحف رقّادة، هو المصحف الأرزق. والشّكر كذلك لشركة أرشيماد وخاصة السيد منجي الزيدي وأسماء شويخ.

والشّكر كذلك لإطارات دار الكتب الوطنية، وأخص بالذكر السيدة هدى بنساسي مديرة الإعلامية والسيدة حنان خميري رئيسة مصلحة نظم المعلومات والسيد نزار سويح مولى رئيس مصلحة الاستغلال والشبكات والسّيّد حاتم الزّريبي، رئيس مصلحة الرّقمنة، والسّيّد محمّد منصري، والشّكر أيضا للسيدة هاجر الساحلي مديرة المجموعات والسيدة لمياء الكنوزي حافظة مكتبات والسيدة ولاء الزبيدي حافظة مكتبات والسّيد كمال الجبالي رئيس مصلحة المالية.

ولا يسعني ختاما إلاّ أن أشكركم جميعا على الحضور وحسن الثقة، وان أحثّكم على الدّخول إلى المنصّة الجديدة، للاستفادة منها ونحن نرحّب بكلّ مقترحاتكم وملاحظاتكم.

شارك رأيك

Your email address will not be published.