تونس : من دستور راشد الغنوشي إلى دستور قيس سعيد

دستور الرئيس قيس سعيد جعل من رئيس الجمهورية مركز ومحور السلطة في الدولة ومكنه من كل السلطات ورسم علي منواله العلاقات بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية فهو الذي يعين رئيس الحكومة وهو الذي يعين أعضاءها باقتراح من رئيس الحكومة وهي مسؤولة أمامه وليس أمام البرلمان وهو الذي يعين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية…

بقلم رؤوف الشطي

عندما كلف رئيس الجمهورية العميد الصادق بلعيد بتراس اللجنة الاستشارية لكتابة مشروع دستور “للجمهورية الجديدة” كنا نخال انه باصطفائه العميد بلعيد لهذه المهمة الجليلة والحساسة وضع ثقته في شخصه وفوض له الأمر لما عرف عنه من دراية واسعة بالقانون الدستوري ومن خبرة واسعة وانفتاح ومصداقية يقر بها الجميع…

كما كنا نحسب انه ترك للجنة الحرية التامة لصياغة مشروع الدستور وفق ما ترتضيه ضمائر اعضائها وما يمليه االمسار الحضاري والسياسي للبلاد التونسية بعد ستة وستين سنة منذ الاستقلال وتطلعات شعبها لبناء دولة مدنية ديمقراطية تلتزم بحقوق الإنسان الكونية في إطار دستور عصري تقدمي يرجع الأمور إلى نصابها و يقطع نهائيا مع الأخطاء الجسيمة و المطبات التي احتوي عليها دستور جانفي 2014 الذي أنجز على مقاس حركة النهضة الإسلاماوية ومشتقاتها باالأساس.

النظام المجالسي و الديمقراطية المباشرة والشعب يريد والحكم القاعدي

واقع الأشياء اليوم جاء مجانبا وبل مخالفا لما قاله العميد بلعيد بكل ثقة أكثر من مرة في الإعلام المسموع والمرئي عندما صرح ان رئيس الجمهورية مكنه من الحرية المطلقة ولم يعطه أي توجيهات أو تعليمات ولم يتطرق معه إلى ما ينسب إليه من أفكار ومشاريع سياسية كالنظام المجالسي و الديمقراطية المباشرة والشعب يريد والحكم القاعدي… وكل ما يتداول حول رؤى الرئيس لمستقبل النظام السياسي في البلاد…

مشروع الدستور الذي تم نشره يوم 30 جوان 2022 في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية والذي سيعرض علي الشعب للاستفتاء يوم 25 جويلية المقبل جاء مخالفا لما صرح به رئيس اللجنة أكثر من مرة عندما أكد ان الدستور سيكون تونسيا لحما ودما بعيدا عن القوالب الجاهزة وانه سيركز علي الأهداف وعلى وضع آليات جديدة لجعل كل هياكل الدولة في خدمة المواطن ومصالح الشعب والتنمية المستدامة… في إطار منظومة جديدة تؤسس للديمقراطية السياسية والاجتماعية وسلطان القانون والتوازن بين السلطات مع التشديد علي وحدة الدولة وديموميتها وهيبتها…

مشروع الدستور حاد كثيرا عن هذا فقد حذف التنصيص علي الطابع المدني للدولة الذي كان موجودا في دستور 2014… أكثر من ذلك فقد أدرج صراحة مقاصد الشريعة الإسلامية كما انه لم يخصص أي باب من أبوابه للجانب الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ولم يشتمل علي غرفة ثانية تهتم بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية والاستثمار ولم يؤسس للتوازن بين الوظائف أو السلطات في الدولة بل جعل من رئيس الجمهورية مركز الحكم في الدولة الذي يدور كل شيء في فلكه ومكنه فعلا من كل الصلاحيات…

الأخطر من ذلك انه أنشأ غرفة ثانية وهي مجلس الأقاليم والجهات… التي قد تدخل الكثير من الارتباك علي أعمال السلطة التشريعية وتضعفها… ونحن لا نري أي ضرورة لإرسائها… اللهم إذا كانت ستخصص لإسماع أصوات الجهات والجهويات…

وإن كان دستور جانفي 2014 قد على مقاس حركة النهضة الإسلاماوية وأسس كل شيء لتمكينها من اللاستئثار بالحكم عن طريق السلطة التشريعية بوصفها مركز السلطة السياسية والنفوذ في الدولة فإن دستور جويلية 2022 لم يكن أساسا كما اقترحه العميد بلعيد والأستاذ أمين محفوظ بل كما أراده الرئيس قيس سعيد الذي استعمل كل نفوذه في كتابته، فهو مهندسه الأصلي حيث عكس مشروع الدستور جليا أفكاره السياسية، انطلاقا من التوطئة التي أطنب فيها الحديث عن الشعب صاحب السيادة و عكس فيها أفكاره حول الحركة الوطنية مارا مرور الكرام علي التضحيات الجسام لزعماء الحركة الوطنية وعلي رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة ومتجاهلا كل إشارة واضحة إلى دستور جوان 1959 رغم انه اقتبس منه الكثير عندما جعل من رئيس الجمهورية مركز ومحور السلطة في الدولة ومكنه من كل السلطات ورسم علي منواله العلاقات بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية فهو الذي يعين رئيس الحكومة وهو الذي يعين أعضاءها باقتراح من رئيس الحكومة وهي مسؤولة أمامه وليس أمام البرلمان وهو الذي يعين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية…

كان باالإمكان ان يكون النص المقترح تونسيا صرفا كما أراده الشعب يشدد علي انتماء تونس إلى الفضاء المتوسطي ويؤكد علي تمسك بلادنا بحقوق الإنسان الكونية و يركز علي المساواة بين الجنسين ويتجنب الخوض في موضوعات لا طائل من ورائها… ويؤسس للعلاقات متوازنة بين السلطات… لكن هذا لم يحدث… والخوف كل الخوف أن يزيد هذا المشروع كما هو على حاله اليوم من انقسام الشعب والطبقة السياسية ويلقي صعوبات عديدة في اعتماده وأعماله في الواقع… في وقت لم تعد فيه البلاد تستطيع تحمل المزيد…

سفير سابق.

شارك رأيك

Your email address will not be published.