المازري الحداد : لا وجود لسياسة خارجية دون سيادة وطنية مكتملة

ذاك هو جوهر المحاضرة التي ألقاها السيد المازري الحداد على منبر مجلة حقائق (رياليتي) يوم الجمعة 12 أوت 2022 والموسومة ب “من أجل ديبلوماسية تونسية متعددة الاقطاب و سيادية”، و قد قدم السيد الطيب الزهار مدير حقائق الإشكالية التي تولى المحاضر بسطها وطرح مجموعة من التساؤلات تتصل بطبيعة السياسة الخارجية و الأسس التي تقوم عليها، معددا في نفس الوقت نوعية التحالفات القائمة على الصعيد الدولي و الآليات المتحكمة فيها و مدى تقبل الدول لهذه الآليات و استعدادها للتنازل من عدمه على صعيد الممارسة السياسية.

بقلم رضا الملولي

هذا ما أجاب عليه الدكتور المازري الحداد الديبلوماسي السابق، مؤكدا على خطورة الموضوع و في نفس الوقت الحرية على صعيد التناول منذ زمن بعيد حيث قال: ” لم ننتظر الأنظمة التي تلت الثورات لنتحدث عن هذه الأشياء الخطيرة منذ زمن بن علي و قد دفعنا الثمن… نحن نتحدث عن شيء غير موجود، السياسة الخارجية التونسية تلاشت بعد جانفي 2011.”

الطيب الزهار أشار إلى التصريحات الأمريكية الأخيرة الصادرة عن السفير المعين و عن وزير الدفاع، و قد اعتبر الحداد أن هذه التصريحات هي بمثابة حصيلة 11 سنة تم أثناءها “الدوس على السيادة الوطنية” ( و العبارة له).

و شرع المحاضر في طرح عديد التساؤلات التي وردت في قالب تأكيدات و مقدمات: لكي تكون لنا سياسة خارجية لا بد من وجود “عقيدة سياسية” تحدد جوهر السياسة السيادية الخارجية. و قد كانت لنا سياسة خارجية إلى حدود 2011 و تم رسمها و تجسيدها من قبل رجل الدولة الأوحد الزعيم بورقيبة… و استعرض المحاضر بعض الجوانب التاريخية التي تحيل على ممارسة ما لهذه السياسة الخارجية المستقلة مع دول صديقة و أخرى لم تكن صديقة لكن لم يقع تصنيفها كعدوة، مؤكدا أن هذه الدول العدوة تم اكتشافها منذ 2011، حيث لا وجود لسياسة بالمعنى النبيل للكلمة أي جوهر السياسة التي لا يستقيم أمرها إلا بوجود علاقة ما بين أصدقاء و أعداء.

أهدرت السيادة التونسية لأكثر من 11 سنة

وعرج المازري في هذا الإطار على المنظر الألماني كارل شميدت مستغربا إحالة بعض وسائل الإعلام عليه، وهو الذي حدد السياسة في ارتباطها بعلاقة ما بين العدو و الصديق، و لم يخف ارتباط شميدت بالنظام القومي الإشتراكي الهتلري المقرف، معترفا أنه تعرف عليه من خلال كتابات المفكر الفرنسي الكبير ريمون آرون.

من جهة مقابلة، يؤكد المازري الحداد على وجوب التنصيص بشكل صريح أو ضمني على الصديق و العدو، خصوصا أن الدول العدوة –كما يشير– تصرفت مع تونس و كأنها دول غازية، من قوة عظمى كالولايات المتحدة الامريكية وصولا إلى دول ميكروسكوبية “كمشيخة قطر”، حيث كانوا يملون أوامرهم على عملائهم من “النخبة التونسية المريضة”و دعاة ثورة الياسمين، مما تسبب في إهدار السيادة لأكثر من 11 سنة.

كما تعرض المحاضر إلى من تداول على تسيير وزارة الخارجية التونسية، معتبرا ان هذه الوزارة عرفت قامات مديدة، بورقيبة أولهم الذي جمع منذ الاستقلال بين الحكومة والخارجية، الصادق المقدم، محمد المصمودي، الحبيب الشطي، المنجي سليم، محمود المستيري، الهادي المبروك، الحبيب بن يحي و فجأة تصاب الوزارة بفيروس رفيق بوشلاكة كوزير للخارجية : انحطاط حقيقي؟ تلوث فعلي؟ و الكلام للحداد الذي لم يخف مرور مسؤولين على الوزارة لا يقلون فظاعة و انعدام كفاءة عن بوشلاكة كالمولدي الكافي سنة 2011 و البعض ممن تولوا مقاليد الوزارة من بعده.

فيروس رفيق بوشلاكة في وزارة للخارجية

و قد أشار ضيف “حقائق” إلى وجود 3 محطات في تاريخ الديبلوماسية التونسية: الذهبية مع بورقيبة (1956-1987)، البرونزية (1987-2011) و الحجرية (2011 إلى اليوم)، و كان الأجدى رسم السياسة الخارجية كما وضعها رجال الدولة في هذه البلاد، مستنتجا أن هذه السياسة سمحت لنا بإقامة علاقات ودية مع كل بلدان العالم … “كان لنا أصدقاء خلص وأصيلين مثل بيتينو كراكسي رئيس وزراء إيطاليا السابق الذي ساعد تونس إلى أبعد الدرجات بفضل شجاعته و جرأته وإنسانيته كذلك تجاه القضية الفلسطينية”، و اللافت حضور بوبو كراكسي زعيم الحزب الاشتراكي الإيطالي الذي أشع من جديد في الساحة السياسية الإيطالية.

من جهة أخرى، اعتبر المحاضر أن ما نعيشه اليوم هو نتيجة حتمية للتدمير الممنهج للسيادة الوطنية و قد “عثرت على نص كنت أجهله منشور في”العالم الديبلوماسي” بتاريخ ديسمبر 1957 حول السياسة الخارجية لبورقيبة، حيث تم التنصيص فيه على ان بورقيبة لم يكن دوغمائيا في سياسته الخارجية، بل كان عمليا… و علينا أن نتذكر أزمة الجلاء في بنزرت سنة 1961، و تهديد بورقيبة بتنويع تحالفاته و بعث فعلا الصادق المقدم كمبعوث إلى موسكو و تساءل الحداد: “قد يحاججني البعض مرددا : عن أية سيادة تتحدث في عالم معولم لا حدود بإمكانها إيقاف سيادة العولمة؟ ما كان متاحا زمن بورقيبة، قد يصعب تجسيمه اليوم؟ و باعتباري واقعيا و براغماتيا أجيب: هذا العالم ذو القطب الواحد في طريق الاندثار، بل أرى أنه اندثر لصالح عالم متعدد الاقطاب و أكثر عدالة”…

لم يخف المحاضر ما أسماها بفظاعة التدخلات في سياسات الدول من قبل المبشرين بالديمقراطية “المقدسة “، مستدلا على أن السياسة الخارجية ذاتها تبنى على القوة و القوة المضادة، فلا يجوز أن تتفرد دولة عظمى واحدة بالعالم و تملي شروطها على بقية دول العالم… لهذه الاسباب مجتمعة شرعت تونس و دول اخرى عديدة في مراجعة سياستها الخارجية وفق معادلة جديدة هي الأخرى، و تمس هذه المراجعة العلاقات الاقتصادية و الأمنية.

الولايات المتحدة تعتمد على عبيدها من الإسلاميين

من جانب آخر، استعرض الدكتور الحداد بعض المواقف المعادية لتونس و البعيدة عن الأعراف الديبلوماسية السليمة و المتعارفة، و بالخصوص تلك الصادرة عن السفير الأمريكي المعين الذي لم يباشر مهامه بعد، حيث صرح بتاريخ 27 جويلية الماضي أمام لجنة في الكونغرس أن من أولوياته وضع تونس في مدار أكثر أمانا و استقرارا، وضع تصور اقتصادي مفتوح و اندماجي خصوصا أن تونس في مرحلة تفاوض مع صندوق النقد الدولي، الحالة المتردية التي عرفتها تونس بفعل الزيغ بالتوجه الديمقراطي عن مساره السليم منذ القضاء على الدكتاتورية سنة 2011 …

تساءل المحاضر: هل هذا كلام سفير محترم ؟ ابدا، خصوصا أن المقاربة الاندماجية التي يتحدث عنها تتصل بعبيدهم من الإسلاميين، هم يعشقون الإسلاميين… و الغريب تصريحات وزير الدفاع الأمريكي يوم 9 أوت التي تلت ما عبر عنه السفير المعين، حيث أشار إلى الرياح المعاكسة للديمقراطية و الوضع الخطير في تونس الذي يتطلب ديمقراطية مفتوحة و اندماجية، و لن نتخلى عن أصدقائنا في تونس … المازري حدد الأصدقاء معتبرا أنهم القطيع و العملاء من الإسلاميين و غيرهم.

الاستنتاج الذي توصل إليه المتحدث، أنه لا وجود لسياسة خارجية دون استعادة فعلية للسيادة الوطنية التونسية، مبرزا أن الأمريكان يدركون تمام الإدراك ما قاموا به في تونس و خارجها و خصوصا في سوريا، حيث دمرت الحضارة بواسطة البربرية المتعاضدة مع الحضارة الغربية… سوريا عرفت الصديق و العدو و أدركت كيفية رسم مستقبلها و سياستها الخارجية وفق هذا التصنيف، لا وفق التغني بالديمقراطية الشكلية كما هو الحال عند الإدارة الامريكية.

هؤلاء ساهموا في تدمير تونس

الطريق – حسب المازري الحداد – واضح و الاختيار الجديد علينا بتمثله وفق مصالحنا و مصالح شعوبنا، لا وفق تهديدات بعض القوى العظمى الآئلة إلى التهاوي… لا يجب الخضوع و الاستكانة، و هذا ما عبر عنه التونسيون منذ 25 جويلية 2021 بعد رفضهم للصوص و الهمج و تجار الدين و الفاسدين الذين نهبوا الثروات الوطنية و تحكموا في مصير هذه البلاد طيلة عشرية كاملة، و أشار أنه لا يتحدث عن الإخوان المسلمين فقط بل عن المنصف المرزوقي و الباجي قايد السبسي كذلك و نداء تونس و المتحول تحيا تونس و يوسف الشاهد و هشام المشيشي… هؤلاء ساهموا في تدمير تونس و في تسفير أكثر من 9 آلاف إرهابي تونسي نحو سوريا لذبح السوريين باسم إلاههم الذي لا نعرفه و ليس إلاهنا الذي نؤمن به… ما حصل في سوريا فظيع بكل المقاييس و لا يمكن غفرانه.

من زاوية أخرى، عدد المحاضر بعض المواقف مما حصل في تونس بعد 25 جويلية، بعضها اعتبر ما حصل انقلابا، متجاهلين الموقف السيادي للشعب التونسي الذي رفض و لفظ الإخوان و من يدور في فلكهم و مشتقاتهم التي رحبت بجون ماك كاين كالإرهابي حمادي الجبالي و جورج سوروس الذي استقبله الباجي في قصر قرطاج.

و يضيف: “الفترة السابقة التي عاشتها تونس هي فترة الدولة المارقة و اللصوصية حيث امتزج الإرهاب الإخواني بالديمقراطية و الجمهورية و الثورجية و المحصلة النهائية هي السراب و الانحدار.”.و ختم بالقول إن الرئيس قيس سعيد ساع إلى إصلاح الأوضاع و الأمر صعب و لا نخفي ذلك، نظرا للدمار على كل المستويات و لكن متى توفرت الإرادة الصادقة تتهاوى الجبال لا النعال… الطاقة التدميرية للاستعمار و عملائه لم يتم القضاء عليها نهائيا و مع ذلك فإن إرادات الشعوب لا يمكن قهرها…

بالمقابل أكد المازري الحداد أنه “يكفي أن نتمعن في مواقف بعض الدول الشقيقة التي تمكنت من رسم سياسات خارجية سيادية ومستقلة بعيدا عن التمثل التقليدي للعلاقات بين الدول، و ان نذكر في هذا الإطار المواقف الوطنية الثابتة لمصر و الإمارات العربية المتحدة و المملكة العربية السعودية و التي جعلت منها نموذجا لبقية الدول العربية في الاستقلالية و السياسة الخارجية السيادية و أبرزت هذه الدول للأمريكان حرصها على قرارها الوطني و قدرتها على بناء تحالفات استراتيجية جديدة و مستقبلية”…

تلا المحاضرة نقاش ثري ساهمت فيه نخبة من الاطباء و رجال الاعمال و ما كان ملفتا إلى أبعد الحدود حضور السفير الصيني و السكرتير الأول للسفارة السوفياتية و زعيم الحزب الاشتراكي الإيطالي بوبو كراكسي، و قد تدخل السفير الصيني بتونس متحدثا دون تحفظ ديبلوماسي، مشيرا إلى أن تونس و الصين بلدان في طريق النمو و مصيرهما مشترك في نواحي عديدة… وأكد أن الصين مستعدة لتقديم كل الدعم لتونس… كما أن تونس و الصين كانتا عرضة لتدخل سافر في شؤونهما الداخلية و هذا ما لاحظته منذ عامين تاريخ وجودي ببلدكم، حيث تم التدخل في الشؤون الداخلية لتونس و هذا مناف للأعراف الديبلوماسية، وهو نفس الصنيع الذي قامت به مؤخرا أمريكا في تايوان و الزيارة الاستفزازية لرئيسة مجلس النواب لتايوان… و اضاف السفير الصيني: “السياسة الخارجية تبنى على السيادة الكاملة مثلما أشرتم، الصين مستعدة باستمرار للوقوف بجانب تونس كشعب و حضارة عريقة تمتد لآلاف السنين تماما مثل الصين”…

شارك رأيك

Your email address will not be published.