حليب “A2” الصحي خيار المستقبل لمربي الأبقار في تونس*

إن إنتاج وتسويق حليب الأبقار “A2” في تونس يمكن أن يكون حلا مفيدًا لتحسين عملية هضم الحليب، خاصة عند الرضع والمستهلكين الذين لا يتحملون الحليب التقليدي. كما يعتبر الحليب الجديد خيارا للتنويع في منتجات الألبان، خاصة بالنسبة للضيعات العائلية صغيرة الحجم، حيث أن هذا المنتج الجديد سوف يساهم بصفة غير مباشرة في استدامة مزارع الألبان.

بقلم د. المعزالعيادي

لا يختلف اثنان على أن للحليب الكثير من المنافع على صحة الإنسان، حيث يُعدّ من المصادر الغذائية الغنيّة بالبروتين الضروري للعديد من الوظائف الحيوية في الجسم، بما في ذلك النمو والتطور والإصلاح الخلوي وتنظيم جهاز المناعة. وقد ارتبط شرب الحليب منذ فترةٍ طويلةٍ بالعظام الصحية، حيث بينت نتائج العديد من الدراسات أنّ انخفاض استهلاك مُنتجات الألبان يرتبط بزيادة خطرالإصابة بمرض هشاشة العظام.

وفي الأونة الأخيرة ظهرت العديد من الدراسات التي تري أن الاستهلاك الكثير للحليب ومشتقاته قد يضر بالصحة، بل وقد يكون أيضا سببا لأمراض خطيرة مثل داء السرطان وأمراض القلب والسكري.

ومن الرغم من تضارب النتائج حول هذا الموضوع إلا أن العديد من البحوث العلمية أكدت عدم صحة هذه الفرضية. وقد أكدت نتائج دراسة حديثة أجريت على أكثر من 135 ألف فردا من 21 دولة في 5 قارات على أن زيادة استهلاك منتجات الألبان (مثل الحليب واللبن والجبن) ارتبط بانخفاض وفيات وأمراض القلب والأوعية الدموية (السكتة الدماغية). وخلصت الدراسة إلى أن “استهلاك منتجات الألبان يجب أن يرتفع”. لسوء الحظ، هذه الاستنتاجات قليلة ومعروفة بشكل ضعيف.

ويقدر المعدل الأوروبي لاستهلاك الحليب ومشتقاته للفرد الواحد ب 250 لتر سنويا، حيث لوحظ تراجع في استهلاك هذه المنتجات في السنوات الأخيرة في حدود 15-20% وهذا ممكن أن يكون راجعا إلي إشكالية هضم الأكتوز وبعض بروتينات الحليب إضافة إلى توجه المستهلك إلى المنتجات النباتية البديلة (مثل حليب اللوز والكتان والصويا…). وفي الأونة الأخيرة، ظهر نوع جديد من حليب الأبقار حول العالم وهو حليب ” A2″. حيث ان المستهلكين الذين لا يستطيعون شرب حليب البقر دون مشاكل في الجهاز الهضمي، وجدوا هذا الحليب الجديد أسهل في الهضم من الحليب التقليدي.

ما هو حليب ” A2″ ؟

يعتبرالبروتين الموجود في الحليب بروتيناً كاملاً، حيث أنّه يحتوي على جميع الأحماض الأمينيّة التسعة الأساسيّة والضروريّة لجسم الإنسان، كما أنّ هناك نوعان رئيسيّان من البروتينات عالية الجودة الموجودة في الحليب، وهما الكازيين (Caseine)، والذي يُشكل 80% من محتوى البروتين في الحليب، وبروتين مصل الحليب (Lactoserum)، الذي يُشكل حوالي 20% من بروتينات الحليب. وهناك أنواع مختلفة من الكازيين، أحد البروتينات الرئيسية الثلاثة في الكازيين هو بيتا كازيين ) β- Caseine)، حيث أنه يمثل أكثر من ثلث إجمالي الكازيين (11-9 جم / لتر) في حليب البقر وهو مهم بشكل خاص بسبب تأثيره على الجهاز الهضمي وعلى الخصائص التكنولوجية لمشتقات الحليب. وقد وجد نوعان مختلفان من بروتين بيتا الكازيين (A1 et A2). مع العلم أن هذه الأنواع من البروتينات لا ترتبط بتغذية البقرة، ولكن ببساطة ترتبط بالتركيبة الجينية.

وحسب التكوين ألجيني فالبقرة ممكن أن تنتج حليبا متكونا من البروتين بيتا كازيين A1A1، أو بيتا كازيين A1A2 أو بيتا كازيين A2A2. حيث ان الأبقار A2A2 هي الوحيدة القادرة على إنتاج حليب ” A2″، لأن الأبقار A1A2 ستنتج خليطًا من بيتا كازيين. وقد اكدت العديد من نتائج البحث أن البروتين بيتا الكازيين يختلف حسب سلالة الأبقار، حيث وجد ان نسبة البروتين بيتا كازيين A1 عالية (0,66-0,72) في أبقارسلالة الهولستين فريزين (Holstein-Friesien) والأيرشير (Ayrshire). اما البروتين بيتا كازيين A2 فكانت نسبته عالية عند الأبقار من سلالة الجرزاي (Jersey) وبعض سلالات الأبقار المحلية وكذالك الزيبو (Zebu).

وقد وجد أخيرا ان نسبة الأبقارالهولستن في إسبانيا وإيطاليا التي تنتج حليبا غنيا بالبروتين وهو بيتا كازيين A2A2 لا تتجاوز 35% من مجموع الأبقار، وهذا ممكن إرجاعه إلى أن برامج الانتخاب التي طبقت منذ أكثر من خمسين سنة لتحسين إنتاجية الأبقار غيرت التركيبة الجينية لهذه السلالة.

إن التخمر والهضم المعوي لبروتينات الحليب ينتج الببتيدات ((Peptides النشطة بيولوجيا، حيث لوحظ ان هضم البروتين بيتا كازيينA1 في الأمعاء الدقيقة (Intestin grêle)، ينتج بيتا كازومورفين 7 (β-casomorphin 7) بكمية أكبر (0,4 جم / لتر) مقارنة بالبيتا كازيين A2 (0,09 جم / لتر), وهو ببتيد أوبيوويد (Opioide) مرتبط بصعوبة الهضم في المعدة وأعراض مشابهة لتلك التي يعاني منها الأشخاص الذين يعانون من عدم تحمل اللاكتوز (مثل الغازات والانتفاخ والإسهال). حيث يعتقد بعض الباحثين الآن أنه قد يكون “بيتا كازومورفين 7” وليس اللاكتوز، هو الذي يسبب هذه الأعراض لدى بعض الأشخاص.

وقد أكدت نتائج البحث في نيوزيلندا ان استهلاك حليب غني بالبروتين بيتا كازيين A2 مرتبط بتسهيل عملية الهضم، وانخفاض انتشار مرض السكري من النوع 1 وانخفاض معدلات الوفيات من أمراض القلب.

ومن الرغم من الحصول على هذه النتائج المتميزة إلا ان هناك أبحاث علمية أخرى لا ترى أي فرق بين أنواع البيتا كازيين، وبذألك ليس هناك أي تأثير إيجابي لاستهلاك البروتين بيتا كازيين A2 على صحة الإنسان.

وفي الأونة الأخيرة اكتسبت دراسة متغيرات البروتين بيتا كازيينA1 وA2 اهتمام الباحثين والمستهلكين على حد سواء، مما أدى إلى تعزيز اتجاهات سوق الألبان الجديدة وارتفاع أسعار الألبان في أستراليا ونيوزيلاندا والولايات المتحدة الأمريكية، ومؤخراً في أوروبا (1,8 أورو اللتر الواحد).

و كتطبيق لمبدأ الوقائي، سيكون من الحكمة استهلاك الحليب الذي يحتوي على البروتين بيتا كازيين A2 لتحسين عملية هضم الحليب، خاصة عند المستهلكين الذين لا يتحملون الحليب التقليدي. وقد ظهرت العديد من الشركات تسويق للحليب الجديد “A2” ومن أهمها الشركة النيوزلندية A2 Milk Corporation والتي تبيع هذا الحليب منذ سنة 2007.

هل هناك إمكانية إنتاج حليب “A2” في تونس؟

يساهم قطاع تربية الماشية في تونس بــ % 11 من قيمة الإنتاج الفلاحي و % 25 من قيمة الإنتاج الحيواني و % 7 من قيمة منتجات الصناعات الغذائية. ويعتبر هذا القطاع في تونس قطاعا استراتيجيّا بالنّظر إلى أهمّيته على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي، حيث يوفر أكثر من مليون يوم عمل في السنة ويشغل بصفة مباشرة حوالي 112 ألف مربي أبقار حسب إحصائيات ديوان تربية الماشية وتوفير المرعي.

وقد قدر مجموع الأبقار في تونس ب 402 ألف وحدة أنثى, منها تقريبا 60% أبقارمؤصلة (Race pure) و 40 % أبقارمحلية (locale) وشركي (locale-croisée). وقد لوحظ أن حجم الضيعات صغير في تونس، حيث 85 % من الفلاحين يملكون أقل من 20 هك و 82 % من مربي الماشية يملكون أقل من 5 أبقار.

أما بالنسبة للإنتاج الحليب فقد قدر بـ 1474 مليون لتر في سنة 2021, حيث يستهلك المواطن التونسي سنويا في حدود 110 لترا من الحليب و 1,4 كغ من الأجبان و1,1 كغ من الزبدة.

وفي دراسة حديثة وأولى من نوعها حول تقييم إنتاجية ونوعية الدهون والبروتينيات في حليب الأبقار بتونس، حيث أظهرت نتائج البحث الأولية أن حليب المنتج من سلالة الأبقار المحلية والشركي تتميز بنسبة عالية من البروتين بيتا كازيين A2 (0,69)، إلى جانب الدهون غير المشبعة ذات روابط اللينوليك CLA: Acide Linoléique Conjugué)) المفيدة لجهاز المناعة في جسم الإنسان.

وخلصت الدراسة إلى أن هناك إمكانية إنتاج وتسويق حليب “A2” بمنطقة الشمال التونسي، حيث ما يقارب 87% من مجموع الأبقار المحلية والشركي (140 ألف رأس بقر) موجودة في هذه المنطقة.

ومن الرغم من تأقلم وتكيف الأبقار المحلية (Race Brune de l’Atlas) للظروف البيئية الصعبة، إلا أن الإنتاجية هذه السلالة تبقي ضعيفة بمعدل إنتاج حليب لا يتجاوز 4-5 لتر/يوم. وقد أكدت نتائج بحوث علمية حديثة أن التحسين في إدارة القطيع (ترقيم الحيوانات، توفيرتغذية جيدة ومتوازنة ومياه نظيفة وكافية، إدخال الحلب الآلي والرفع في عدد الحلبات في اليوم، توفير التغطية الصحية، الخ) حسنت في معدل إنتاج الحليب اليومي للأبقار الشركي إلي 8,5 لتر (من 3,0 إلى 18,0 لتر/ يوم)، مع معدل إنتاج حليب عال في موسم الربيع (10,2 لتر/ يوم).

إن الترويج لمنتجات الألبان المحلية ذات جودة عالية شكل، في المدة الأخيرة، هدفا مشتركا بين مختلف الجهات الفاعلة وخاصة المربين والباحثين والمستهلكين. حيث أن التنويع في منتجات الألبان، كإنتاج مشتقات الحليب البيولوجية أو حليب “A2″، سيساعد في المستقبل علي المحافظ علي سلالة الأبقار المحلية بمنطقة الشمال الغربي التونسي واستدامة قطاع الألبان في هذه المناطق الريفية والجبلية من خلال الحصول على منتجات ذات خصائص نشطة بيولوجيا (Molecules Bioactives) ومسجلة (Appellation d’origine contrôlée).

ويجري العمل حاليا على بعث مشروع بحثي مشترك بين جامعة جندوبة بتونس وجامعة الطارف بالجزائر وجامعة الأوتونوما ببرشلونة بإسبانيا وجامعة الملك سعود بالمملكة العربية السعودية حول تثمين منتجات الألبان وإنتاج حليب غني بالبروتين بيتا كازيين A2A2 من سلالات الأبقار المحلية.

الخلاصة

إن إنتاج وتسويق حليب الأبقار “A2” في تونس يمكن أن يكون حلا مفيدًا لتحسين عملية هضم الحليب، خاصة عند الرضع والمستهلكين الذين لا يتحملون الحليب التقليدي. كما يعتبر الحليب الجديد خيارا للتنويع في منتجات الألبان، خاصة بالنسبة للضيعات العائلية صغيرة الحجم، حيث أن هذا المنتج الجديد سوف يساهم بصفة غير مباشرة في استدامة مزارع الألبان.

أستاذ محاضر في فسيولوجيا الحليب والإنتاج الحيواني بجامعة جندوبة وخبير متعاون لدي منظمة الأغدية والزراعة للأمم المتحدة (FAO).

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.