الإستئناس بالفكر الخلدوني في فهم للظواهر التي تهدد المجتمع التونسي

و أنا أقرأ كتاب “دور المسلم” للمفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي الصادر عن دار الفكر بدمشق وهو في جزء منها نص محاضرة قدمها الكاتب في العاصمة السورية، بمسجد الرباط، خلال ستينيات القرن الماضي، تناولت المجتمع المتحضر و ما يسميه هو محور واشنطن-موسكو و كذلك أوروبا و ما ينتاب الشباب فيها من مظاهر خارجة عن المعتاد و لا تمد للمدنية بصلة من ذلك إدمانه على المخدرات و إقباله على الانتحار في دول بعينها كفرنسا و السويد. و يمكن أن نضيف إلى ذلك ظاهرة الاغتصاب التي تجتاح بقوة المجتمع في أمريكا. كان هذا تمهيدا سأتطرق من خلاله إلى حالة الشباب الآن في تونس، و هي أخطر بكثير مما نتصور و نحن مجتمع مسلم يحرم علينا ديننا الحنيف قتل النفس إلا بالحق و تجنب إتيان الموبقات و ارتكاب المعاصي. 

                 بقلم ياسين فرحاتي

و في حقيقة الأمر، لنقل أنه منذ ما لا يقل عن أكثر من خمسة عشر عاما و بلادنا تعرف موجة تلو الموجة من الهجرة السرية و ليتها كانت هجرة آمنة بلا خسائر فادحة في الأرواح أو بلا بكاء أو نحيب للأمهات. ف”قوارب الموت” نكاد نسمعها في كل يوم في عرض البحر و جثث مفقودة و متعفنة من مختلف الجنسيات و الألوان. البحر يكاد يبتلع كل آدمي يدنو منه هاته الأيام و الأخبار المتداولة على شاشات قنواتنا التلفزية تؤكد ذلك.

يا لهول الفاجعة و يا للمأساة التي حلت بشبابنا الضائع و التائه و الغارق في الأوهام ! بعدما يئس و فقد الأمل في حياة كريمة و لم يعد يتحكم في أحاسيسه و أحلامه فيرمي بنفسه في بحر لجي لا يعلم أين يمكن أن تحمله أمواجه العاتية و الغادرة. المهم أن يصل مياه “لومبادوزا” تطأ قدماه أرضها. و يفتح عينيه فجأة على أجواء إيطاليا كأقرب وجهة أوروبية بعيدا عن وطنه الأم وهو لا يعلم أنه قد ولج عالما مجهولا يخفي ما يخفيه من قبس الآمال و كثرة الآلام و ما يتطلبه من الصبر و المكابدة بينما الدعوات في السر و العلن ترقبهم من بعيد تذيعها حناجر ذويهم الحيارى هي أيضا على مستقبلهم و الذين يشكل غالبيتهم شبابا عازفا عن التعلم و العمل و خارجا عن سيطرة الآباء و الأمهات لكنهم “ما باليد حيلة !” كما يقول المثل الشعبي.

عدد المهاجرين السريين قد تجاوز 13000 شخصا منذ جانفي الماضي

آخر الإحصائيات الرسمية و الصادرة عن بعض مراكز دراسات مهتمة بالموضوع مثل منتدى الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية أو منظمة الهجرة أو العمل في تونس و غيرها تشير إلى أن عدد المهاجرين السريين قد تجاوز 13000 شخصا منذ جانفي الماضي و إلى حد كتابة هذا المقال و العدد في ازدياد و هم أغلبهم تونسيون و كثير منهم هم من الأفارقة و بعض العرب الذين لجؤوا إلى بلادنا بعد الثورة و استقروا فيها آملين في أن تشكل هذه الأرض بارقة أمل لبناء مستقبل أفضل عندما ينتقلون منها إلى العالم الآخر أي أوروبا.

إذن المشكلة الأولى التي يعاني منها شبابنا وهي الأشد فتكا و إيلاما هي “الحرقة” بلغتنا الدراجة أو العامية و قد تكون أكثر تعبيرا و تشخيصا للحالة النفسية من كلمة هجرة غير شرعية. و قد كانت عنوانا لمسلسل رمضاني ممتع و شيق جدا على التلفزة الوطنية الأولى خلال شهر رمضان الفارط و نال نسبة مشاهدة كبيرة. 

و رغم محاولات السلطات الأمنية التونسية من حرس بحري و أمن حدود التركيز على مناطق بعينها تمثل نقاط عبور و منفذا إلى خارج حدود الوطن و برغم بعض الوسائل المتطورة للمراقبة و الرصد و المتابعة، ثمة أشياء مباغتة و دون رقابة ذلك أن الشاب يدفع كل ما لديه من مال و الأمر أحيانا يصل إلى عدة ملايين تونسية في أكثر من مرة و لا يفشل من تكرار المحاولة كلما سنحت الفرصة بذلك و لعامل المباغتة و المفاجأة دور كبير و بعضهم يتحدث عن “الزهر” و كأننا أمام لعبة احتمالات أو يا نصيب. و الأمر لا يتعلق بالرجل فقط بل حتى بالفتيات خصوصا من ذوات اللون الأسود. كما أنه في أحد المرات الفارطة إمرأة تونسية دخلت معترك الهجرة سرا و برفقتها ولدها وهي علاوة على ذلك تحمل شهادة جامعية و لا غرابة في ذلك !

أما الآفة الثانية فهي الإدمان على تعاطي المخدرات من كوكايين و هيرويين لدى شباب المعاهد و الكليات و الضرر قد يلحق بالجنسين ذكورا و إناثا مع بعض الفوارق في النسبة. كما أن تناول الكحول و الخمور هو أيضا نوع آخر من الإدمان و أمر ملفت للانتباه خصوصا في المناطق المهمشة اقتصاديا و ثقافيا و اجتماعيا و قد توفى عدد من شبابنا في ولاية القيروان و القصرين خلال إحدى السنوات القليلة الماضية تحت تأثير العطورات و قد مزجت بمادة سامة و ملوثة محجر بيعها و كنها صنعت يدويا. هذا إلى جانب تناول أدوية مخدرة يتناولها أصحاب الأمراض النفسية.

منذ أيام قليلة روى لي أحد المربين الذين لا يزالون يباشرون مهنة التدريس أنه في بعض المناطق المهمشة من مدينته ينتشر باعة المخدرات و باعة الخمور و حتى تجارة الجنس و يقول لي أن السلطات الأمنية الجهوية على علم بهذه الظواهر لكنهم يقدمون بعض الخدمات لهم متمثله عن تقديم بعض المعلومات لهم في مقابل الصمت عنهم و غض الطرف عن ممارساتهم اللاأخلاقية و اللاقانونية. و لكم أن تصوروا أي مستقبل ينتظر أبناء مثل هاته المناطق و الجهات المحرومة و المهمشة و الضالة أيضا ! و الفارق جوهري و البون شاسع بينها و بين المدن الصناعية في بلادنا حيث مرافق التدريس الجيدة و التثقيف و الإمتاع و المآنسة و الترفيه حيث الشطآن و الفنادق لكن هذا لا يعني أيضا خلوها من هاته الآفات إذ عبرها تتم الهجرة غير الشرعية كما أن البعض من نجوم تلك المدن لا يعدون إستثناء.

بودي أن أضيف هنا أنني لست أقوم بترتيب تصاعدي أو تنازلي لدرجة المخاطر فهذا دور يقوم به عالم الاجتماع و دور منوط بكاهل الدولة التونسية، التي تملك قواعد البيانات أافضل مني، لكني هنا أحاول أن أشرح بقدر فهمي و استيعابي للظواهر الاجتماعية و كما يقول الفيلسوف الألماني كارل ماركس: “إن مهمة الفلسفة ليس فهم العالم، بل تغييره” و قيادة التغيير صلب المجتمعات أيضا لا تتم إلا بتوافر ثلاثة عوامل مجتمعة معا، حسب نموذج Pettigrew هي : السياق و المحتوى و المسار. لأن التغيير مسار ديناميكي.

و لفهم ذلك أكثر، أرى أن أفكار و تصورات و نوازع الشباب تتغير لأن المجتمع “نسق مفتوح” حسب النظريات المعاصرة لعلم الاجتماع و الانسان و هو الفرد أو الشاب هو نواة المجتمع تحكمه “قوانين نيوتن” المتمثلة في قانون “الدفع و الجذب” فيؤثر و يتأثر بالإيجابي و السلبي و تحركه قوى داخلية متضادة. فتكون أفعاله و تصرفاته و أقواله في أحيان غير سويه و خالية من النضج المنطقي و من الرصانة و رجاحة العقل. لذلك فإن نفس الأسباب في نفس الظروف تؤدي إلى نفس النتائج ذلك أن البيئة المجتمعية الفاسدة بدءا من الأسرة عندما تلتقي بأصحاب السوء في الشارع، ستخرج لنا طفلا سيكبر ليصبح شابا مارقا و متمردا عن العرف و العادات و التقاليد و نواميس المجتمع و هو ما نراه بإمعان مع أسف شديد اليوم ! 

أسباب الانحدار و التخلف حسب ابن خلدون

نحن في تونس و في المغرب العربي متأثرون جدا بنظريات العلامة عبد الرحمان بن خلدون في العمران و الاجتماع البشري خصوصا الأجيال السابقة و منهم كبار الباحثين و المثقفين، و لكن و للأسف بالنسبة لهذا الجيل الذي تربى على الإنترنيت و مواقع التواصل الإجتماعي لا يعلم شيئا عنه و لا يرى إلا ذلك التمثال المنتصب صامدا وسط شارع الحبيب بورقيبة الأكثر شهرة في البلاد. فكل ما قاله ذلك الفيلسوف الكبير و المؤرخ الشهير و السياسي المحنك لا يأبه به كثيرا من هؤلاء و يا للأسف مرة أخرى إذ أن البعض يسوق حججا و مسوغات من قبيل أن فكره قد أكل عليه الدهر و شرب و الواقع يقول أنه يصلح لهذا الزمان خصوصا فيما يتعلق بأسباب الانحدار و التخلف، و لنأخذ مثالا على ذلك كثرة ارتياد و زيارة العرافين و من يقرؤون الكف و المشعوذين و انتشار الاحتيال على السذج و المغفلين و قد كان فيه اعتداءات على شرف و عرض و عفة عديد النسوة. إذ الاعتقاد في قدرة أولئك الذين يدعون معرفة الغيب و جلب الخير و الحظ علامة من علامات التخلف الديني و التدهور الأخلاقي كما أن انتشار الإشاعات و تناقل الأخبار الكاذبة و الزائفة دون التثبت من مصادرها أمور مريبة تسود و تسم مجتمعنا بسمات خاصة هذا إلى جانب انتشار الفتن و المعارك بين العروش و القبائل بسبب الأرض و الممتلكات بين الإخوة و الأقارب و الأصهار في إطار العصبيات و حمية الجاهلية. 

كل الظواهر الاجتماعية المحدقة و المهددة لوحدتنا و تماسكنا و ألفتنا و لأواصر الأخوة فيما بيننا قد ذهبت بعدد لا يستهان به من الأرواح الآدمية يعود أولا و أخيرا إلى غياب الوازع الديني و سمو الأخلاق و رفعتها و قد جاءنا رسولنا الكريم بخطاب نير و عظيم و رسالة هي الأرقى كونيا محتواها : “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” و نحن ورثنا هذه الرسالة الخالدة عنه و نحن من أتباع السلف الصالح، واجب علينا أن نقتفي أثرهم و نساهم في إصلاح هذا المجتمع كل من موقعه المعلم و الأستاذ و الأديب و المفكر و العالم و الصحافي أو رجل الإعلام و الإعلام سلطة رابعة و جهاز خطير و الطبيب و المحامي و القاضي و الشرطي و عامل النظافة لأن صلاح المجتمع بصلاح الفرد حتى نحافظ على توازنه و استقراره و تحقيق تنمية مستدامة و بيئة سليمة من كل الأمراض و حضارة مشعة، تشع على كل الدنيا.     

كاتب من تونس.

شارك رأيك

Your email address will not be published.