الفيلسوف السينغالي بشير سليمان ديان يفتتح الموسم الأكاديمي 2022-2023 للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” بمحاضرة حول المنزلة الكونيّة للترجمة يوم 1 أكتوبر 2022 بمقر المجمع بقرطاج أمام جمع من الأكاديميين و المثقفين و الكتاب.
بقلم عزالدين العامري
أين تتجلى خيانة الترجمة؟ هل يستقيم المنطق التفاضلي في المجال اللغوي؟ ما مدى وجاهة الإقرار بتفوّق لغات الأمم الكبرى؟ بأيّ معنى تكون الترجمة لغة اللغات؟ كيف تتساوى اللغات إن نزّلناها في السياق الأنطولوجي؟ هل يشترط مجد الاختلاف نفي الآخر؟ أم يرتهن بتكريس قيم التعايش المشترك؟ أليست الترجمة الحاضنة الأساسيّة للتثاقف (acculturation) والتجسيد الحقيقي للإنسان الكوني؟
افتتح المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” موسمه الأكاديمي 2022-2023 بالبحث في هذه الإشكاليّات ذات الطبيعة الألسنيّة، والفلسفيّة، والأنثروبولوجيّة، والفكريّة المختلفة مستضيفا الفيلسوف السينغالي بشير سليمان ديان، والذي قدّم مؤخّرا محاضرة باللغة الفرنسيّة عنوانها Pour un universel de traduction نظّمها بيت الحكمة بالتعاون مع مركز جامعة كولومبيا في تونس.
الترجمة ليست مجرّد مرادفات ولعبة ألفاظ
عرض الفيلسوف السينغالي مقاربات يتداخل فيها الأنطولوجي والمعرفي والقيمي لأنّ الترجمة ليست مجرّد مرادفات ولعبة ألفاظ، بل هي “رسالة ساميّة” كما ورد في نصوص بول ريكور Paul Ricoeur تلك التي اعتمدها المحاضر في تفكيكه لمفارقة “الاستحالة والإمتاع” فالترجمة في رأي فيلسوف التأويليّة “مستحيلة لكنّها ممتعة” لأنّ اللغة وفقا لبول ريكور “متعدّدة الدلالة”، والعبارة الواحدة تحتمل أكثر من ترجمة لذلك تمنحنا متعة عناء التأويل.
وفي هذا السياق أبرز بشير سليمان ديان المنزلة الإنسانيّة الكونيّة للنصوص المترجمة لما تضطلع به من إغناء للأعمال الأصليّة طالما أنّ كل ترجمة هي قراءة جديدة، خاصّة وأنّ المعنى ديناميكي ومترامي الأطراف، ويمكن لأيّ كان أن يقتحم بيته إن أحسن عبور الحواجز، وحلّق المحاضر في هذا الصدد بأجنحة فلاسفة الفينومينولوجيا على غرار موريس مرلو-بونتيMaurice Merleau Ponty وأدموند هوسرل Edmund Husserl المشدّدين على طبيعة الحقيقة بما هي حقل دلالي تأويلي ومعيش تترجمه جميع الذوات بترجمات مختلفة قوامها التثاقف بمنأى عن أوهام التفاضل والادعاء بامتلاك المعنى القطعي.
فالتعدّديّة ملزمة باحترام المغاير لذلك دحض المحاضر أطروحات الانغلاق انسجاما مع مسيرته العابرة للثقافات وللاختصاصات، فهو من أبرز فلاسفة وعلماء القارّة الإفريقيّة كما قدّمه رئيس المجمع الدكتور محمود بن رمضان، إذ يجمع بين التكوين العلمي والتخصّص الفلسفي حيث انطلقت مسيرته من قارّة النشأة، عابرة أوروبا وتحديدا أعرق الجامعات الفرنسيّة نحو أمريكا أين يدرّس حاليّا في جامعة كولومبيا، فهو دكتور دولة في الفلسفة وحاصل على الدكتوراه في الدراسات الفرنكوفونيّة، ويشرف على معهد الدراسات الإفريقيّة، وعضو في الأكاديميّة الملكيّة البلجيكيّة والأكاديميّة الأمريكيّة للفنون والعلوم، وصاحب عديد المؤلّفات المهتمّة بالفلسفة والمنطق وتاريخ الفلسفة الإسلاميّة والأدب الفرنكوفوني.
تجربة متنوّعة اللسان والبيئة الثقافيّة
وعليه يتناول الفيلسوف مسألة الترجمة بناء على تجربة متنوّعة اللسان والبيئة الثقافيّة، شعاره في ذلك مقولة الكاتب الكيني Ngugi Wa Thiong’o “الترجمة هي لغة اللغات” فبقطع النظر عن ثغراتها تظلّ جسرا بين ثقافات وحضارات متعدّدة يوحّدها التعايش المشترك، بما تعني العبارة من قيم إنسانيّة جامعة ومن معارف موحّدة ومن هواجس تتخطى كافّة الاعتبارات العقائديّة والعرقيّة واللغويّة والإيديولوجيّة، وهذا ما لخّصه المحاضر في قول الشاعر السينغالي سنغور Léopold Sédar Senghor “فخر الاختلاف لا يمنعنا من سعادة العيش معا” لأنّ التنوّع اللغوي آليّة من آليّات إثراء المعنى كلّما تفاعلنا معه على أنّه مرآة لتنوّع تجارب الشعوب، وقد يتحوّل إلى صدام حضاري إن توهّمنا التفاضل أو انخرطنا في لعبة الهيمنة.
كما تطرّق المحاضر في هذا المجال إلى النزعة الاستعماريّة، تلك التي يمكن أن تتمظهر في العسكري والاقتصادي والسياسي وفي اللغوي كذلك، وكم هي عديدة الذوات التي تمارس جلدها الذاتي لغويّا عبر تحقيرها للغتها واحتمائها بمنطوق غيرها! فالمغلوب مولع بالتشبّه بالغالب على حدّ عبارة ابن خلدون، وتضطلع الترجمة وفقا للمحاضرة بمهام إيتيقيّة داحضة للشعور بالدونيّة المتنامي في ظلّ العولمة، فهي جسر تواصل مع الكوني وضد العولمي، بمعنى ضد منطق النموذج الأحادي الموهم بمعياريّة مثاليّة، والتائق إلى ابتهال الجميع في حضرته.
لقد سعت ثقافات الهيمنة إلى ترويج هذا المنطق بحدّة في سياق ما بعد الحرب العالميّة الثانية، في حين أنّ كونيّة الإنسان في التعدّد وليست في الأحاديّة مثلما تزعم بعض القوميّات اللغويّة أو ما يعبّر عنه باللغة الإمبرياليّة السائدة في المشاريع الثقافيّة المكبّلة بعقدة المركزيّة، والتي تعريها حركة الترجمة بوصفها نموذجا للقاء اللغات إن استعرنا عبارة مرلو-بونتي.
باختزال شديد تظلّ جهود الترجمة آليّات مثلى للتواصل بين الشعوب والحضارات لأنّ وعي كل مشروع ثقافي يستوجب حتما وعيه بالمختلف، وكل من يدّعي إمكانيّة اكتفائه بذاته فهو يستبطن قيم غيره ومعارف سابقيه، فالفلسفات والعلوم والآداب والفنون المعاصرة تتكلّم عن وعي أو عن غير وعي لغة السابقين منذ الإرهاصات الأولى وذلك بفضل سفن الترجمات العابرة للقارّات والبحار.
إعلامي وكاتب.
شارك رأيك