تونس بحاجة إلى حل الصراعات الشغلية بالحوار المدني المسؤول

المعارك بين الحكومة التونسية و الاتحاد العام التونسي للشغل قديمة ومتجددة و أصداؤها في الشارع التونسي تتردد منذ الستينات من القرن الفائت بل لقد تسببت في عديد الأزمات التي اهتزت لها البلاد و سقط خلالها عديد الضحايا… لذلك و جب التفطن لها و تجنب كل ما من شأنه أن يحولها من الحوار المدني المسؤول إلى صراعات عنيفة.  

                             بقلم ياسين فرحاتي 

منذ أواخر الأربعينات، و الإعلان عن تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل بزعامة النقابي الفذ فرحات حشاد و من تلاه و خصوصا فترة تولي النقابي الكبير أيضا الحبيب عاشور زمن حكم الحبيب بورقيبة و حتى الأيام الأخيرة من حكم نظام زين العابدين بن علي و الخلافات متواصلة بين مختلف الحكومات التونسية و المنظمة الشغيلة سواء عل مستوى المركز أو حتى الفروع الجهوية. و الحقيقة تقال أن الاتحاد كان إلى جانب مطالب منظوريه على مستوى الجهات خصوصا فرعه بصفاقس، مهد و قلعة العمل و النضال النقابيين. حتى أنه هو  من كان المبادر الأول و المساهم الرئيسي في إسقاط حكم حزب التجمع الدستوري الديمقراطي في جانفي من سنة 2011، يوم السبت ال13 من نفس الشهر بعاصمة الجنوب. 

و قد تطور عطاء الإتحاد و مساره رغم عديد السلبيات و شبهات الفساد التي تحوم حول بعض قياداته في الأمانة العامة و على مستوى الفروع، و كانوا سببا في تعطيل عجلة الاقتصاد الوطني بعدد غير محدود من الاضرابات الوطنية و الجهوية إلا أنهم أحرزوا أيضا ضمن الرباعي الراعي للحوار “جائزة نوبل للسلام” عام 2015.

متى يتم الاتفاق على هدنة اجتماعية ؟

و ما انفك قادة الاتحاد يلعبون أدوارا محورية و أساسية في المفاوضات الاجتماعية مع الحكومة الحالية و التي سبقتها و كذلك اقتراح أفكار و مبادرات و ما يرونه حلولا لمساعدة الدولة في إنقاذ الوضع المتأزم، و قد حدث أن تم الاتفاق على هدنة اجتماعية بين الحكومة التونسية و إتحاد الشغل بعيدا عن الاضرابات و الاحتجاجات و المطالب الشعبية و عادة ما كانت الفترة الفاصلة بين الشرارة الأولى للثورة أي يوم 17 ديسمبر من كل عام و شهر جانفي مليئة بالتوترات و بمنسوب على غير العادة من العنف.

و بعد  الفرقعة الإعلامية و الزوبعة السياسية اللتين أثارتهما قضية التسفير إلى بؤر التوتر، عاد الحديث من جديد و بنفس أقوى مع العودة المدرسية عن أوضاع المدرسين النواب و المنتدبين الجدد في سلكي التعليم الإبتدائي و الثانوي و جوهر المشكل الذي يبارك اليوم هي الصفة الجديدة  قد تطلق عليهم و هي “عون مكلف بالتدريس” فبعد أن كاد المعلم أن يكون رسولا و نظرة الإجلال و الاكبار التي كان  ينظر بها إليه و كما يقول المثل أيضا من علمني حرفا صرت له عبدا، صار إلى ما صار إليه من سخرية و استخفاف به و انتقاص من قيمته. ذلك أن كلمة عون عادة ما كانت تطلق على من يمتلك لا شهادة علمية أو له مستوى دراسي أقل من الباكالوريا. أما من يباشرون مهنة التعليم و التدريس اليوم في تونس، فأدنى مستوى هو شهادة الإجازة في علوم التربية أو شهادة الأستاذية و منهم من يفوق ذلك وهو متحصل على شهادة ماجستير أو أكثر و منهم من تألق و ابتكر وسائل بيداغوجية حديثة توظف التكنولوجيا الحديثة للمعلومات.

وعود كاذبة و زائفة

و يخوض قطاع المنتسبين لقطاع  التعليم معارك على أكثر من صعيد من أجل إعادة الاعتبار لهم كإطارات تربوية يجب أن تتمتع بحقوقها كاملة لقاء ما قدمته من نضالات لسنوات طويلة في الأرياف تحت وطأة الحر و البرد و الثلوج و الأمطار و بمقابل زهيد يساوي أجر عامل حضيرة ما قبل الثورة يتقاضاه بعد عام أو أكثر، فهل توجد تضحيات أكبر من هذه ! لكنهم يقابلون من طرف الوزارات المتعاقبة في أغلب الأحيان بالجودة و النكران فيدخلون في معارك مرهقة جدا وصلت حد الإنتحار و إضراب الجوع و العديد منهم متزوج و له أسرة يعوضها و الوزارة غير مبالية تماما بما يحدث و يكتفي الوزير بالقول إن الوضع الاقتصادي سيء جدا و الأمر من ذلك هي الوعود التي يقطعها كل وزير على نفسه بأن يكون هذا العام أفضل من العام الفارط بأن خلاص الأجور في موعدها و لكن يكتشف الأستاذ أو المعلم النائب أنها مجرد وعود كاذبة و زائفة و تسويف لا أكثر. و إذا كان موضوع المعلمين النواب قد وصل إلى حلول أفضل بكثير من الأساتذة بإعتبار أن هذه الطائفة قد شهدت انتداب من هم داخل قاعدة البيانات بحسب اتفاقية ممضاة سابقا بين نقابة التعليم الإبتدائي و وزارة التربية و الحقيقة تقال أن هذه النقابة بالذات أثبتت جدارتها في أكثر من مناسبة و دفاعها المستميت عن حقوق المعلم أو أستاذ التعليم الابتدائي و يطيب لي في هذا الإطار أن أتوجه بتحية شكر و تقدير و عرفان لكل المدرسين في يومهم العالمي الموافق لل5 من أكتوبر من كل عام. و رغم  أنه  في عديد المرات كان تعطيل سير الدروس و الإضرابات  على حساب مصلحة التلميذ الذي تضرر كثيرا و الذنب ليس ذنبه و لكن الخطأ قد يتحمله الإثنان و خصوصا سلطة الإشراف.

و بالمناسبة فقد أكد الأمين  العام نور الدين الطبوبي وقوفه إلى جانب حقوق الأساتذة و المعلمين و قال : “إن صفة عون هي إهانة للمربي و التلميذ و الولي” حاثا الوزارة إلى التعاطي الجدي مع ملفهم الشائك و الإنساني. كما أكد منذ يومين أن الملف في طريقه إلى الحل.

بالنسبة للأساتذة النواب و عددهم أربعة أو خمسة آلاف أستاذ، صرح وزير التربية الوطنية أنه سيتم إنتدابهم عبر دفعات مع ضرورة  معالجة عقود التشغيل الهش و المتدنية مع الأطراف النقابية في أقرب الرجال، هذا  مقارنة بمجهوداتهم داخل فصول التدربس و هذا أمر عادي تماما في اعتقادي، أما الأمر الغريب حقا فهو أن عددا كبيرا منهم  فاق الأربعين سنة و لم يعجل بانتدابه و هذا ظلم و حيف كبيرين  مقارنة بمن يقع إنتدابهم في سن الثالثة و عشرين و من المهم جدا المقارنة بين التكوين الأكاديمي و الزاد المعرفي لأصحاب الأستاذيات و أصحاب الإجازات فأغلبهم ينتمون إلى سنوات عرفت فيها شهادة البكالوريا انحرافات و تجاوزات خطيرة.

معارك النقابات لم تتوقف عند هذا الحد، بل نجد نقابة القضاة في صراع خطير مع الحكومة منذ إعفاء العشرات منهم من مهامهم و هم اليوم، يريدون حسب ما نشرت جريدة الصباح خلال هذا الأسبوع، المشاركة في الإنتخابات التشريعية من جانب الإشراف القانوني لكن لا أعتقد مطلبها سيجد القبول الحسن من لدن الحكومة و خصوصا مؤسسة الرئاسة. 

قطاع آخر يعاني الويلات و الأمرين، هو قطاع الدكاترة الباحثين في ظل عزوف الدولة عن الإنتداب و فرص التعاقد الهشة و عددهم اليوم بالآلاف، كما أن بضعة آلاف منهم ما إنفكوا يغادرون البلاد للعمل في دول الخليج و أمريكا الشمالية و الصين و أوروبا الغربية بعد إستحالة الحصول على شغل لهم في تونس، منذ أربع أو خمس سنوات على الأقل.

كل الصراعات الإجتماعية تجد صداها في الشارع التونسي و كأننا أمام صراع حقيقي و فعلي للطبقات تحدث عنه كارل ماركس و الصراع محرك التاريخ و كل يوم، ترتسم ملامح حياة و تغير و تطور جديد  في مسار الأحداث و الأفكار في تونس. و لا بد هنا، من تحريك للعقول و استنهاض للهمم و تحفيز للنفوس على التفكير الخلاق لتجاوز ما نحن فيه من أزمات اجتماعية متراكمة و استحداث علم جديد هو “علم الأزمات crisologie ” من ابتكار عالم الإجتماع و المفكر الفرنسي إدغار موران. و إن كان علم الإدارة يتناول أيضا هذه الأزمات بطريقته الخاصة باستعمال أدوات رياضية.

و نختم مقالتنا بالإشارة إلى معركة نقابية أخرى حامية الوطيس  هي بين النقابات الأمنية و وزارة الداخلية وصلت حد تبادل العنف أو غلبة فريق لآخر، و تتهم وزارة الداخلية نقابات الأمن الداخلي بامتلاك أرصدة بنكية تصل أو تفوق 600 ألف دينار و هي قضية أثارتها وسائل الإعلام التونسي و يقع التفاعل معها و لا ندري إلى أين يمكن أن تؤدي.

يبدو أننا في تونس قد اخترنا الحوار سبيلا لحل مشاكلنا و التخفيف من حدة أزماتنا و لا بد من الحفاظ على ديناميكية هذا المسار و تجديده دون إقصاء أو تهميش في إطار ما سماه الفيلسوف فتحي التريكي العيش المشترك.

كاتب من تونس.

شارك رأيك

Your email address will not be published.