تونس : بيت الحكمة من فن السؤال إلى سؤال الفن

خلال أسبوع احتفاله بذكرى 39 لتأسيسه وعشريّة هيكله العلمي الجديد المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” يضع نشاطه الأكاديمي فوق طاولة التشريح النقدي عبر طرح إشكاليّة: أيّ مجمع نريد؟ من فنّ السؤال و إلى سؤال الفن…

بقلم عزالدين العامري

أيّ مجمع نريد؟ ذلك هو السؤال الإشكالي الذي طرحه المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” في مائدة مستديرة، افتتح بها أسبوعه الاحتفالي بالذكرى 39 لتأسيسه وعشريّة هيكله العلمي الجديد (5-10 ديسمبر2022). فلم تكن هذه الفعاليات المتسائلة عن المجمع المنشود منبرا تقريظيّا بل وضعت الأنشطة المجمعيّة فوق طاولة التشريح النقدي بقطع النظر عمّا تحقّق من أعمال على امتداد المواسم الأكاديميّة المتتاليّة، ومن إنتاجات معرفيّة مشعّة وطنيّا وعالميّا، إذ افتتح السجالات الأستاذ صلاح الدين الشريف بمقاربة نقديّة تتخطى التذكير بالمكاسب لأنّ المنجز يتنزّل في نظره ضمن المهام الطبيعيّة للمجمع، داعيا إلى ضرورة التمييز بين نشاط بيت الحكمة والهياكل الأخرى المهتمّة بالأنشطة الثقافيّة على غرار أنشطة دور الثقافة، وأكّد في مداخلته على حتميّة إعادة النظر في تركيبة الأقسام العلميّة وسبل “التغيير الجذري”.

تقديم الإضافة في جميع المعارف

لتحقيق التغيير المنشود وفقا لمقاربة الرئيس السابق لبيت الحكمة، الأستاذ عبد المجيد الشرفي لا بدّ من استلهام نموذج “ينسجم مع الخصوصيّة التونسيّة”، فلا يمكن للأكاديميّة أن تكون “ناديا للمؤسسين” حسب عبارته، لذلك لابدّ في رأيه من انفتاحها على مزيد من الأكاديميين التونسيين ومن جميع الضفاف العالميّة إغناء لأعمالها بوصفها منفتحة على كلّ من يقدّم الإضافة في جميع المعارف.

في نفس السياق شدّد جميع المتدخلين على أنّ استراتيجيات التطوير ترتهن بالتقويم النقدي كي يضطلع بيت الحكمة بمهامّه الوطنيّة والكونيّة، فرسالته العلميّة إنسانيّة بالأساس مضمونها رسالة قيم يؤسّسها جدل النخب القادرة على تجاوز السياق الضيّق نحو الإنسان الكوني، كما ورد في تدخّل رئيسة قسم العلوم الأكاديميّة آمال بن عمّار قعيّد منسجمة في ذلك مع مقاربة رئيس المجمع الأستاذ محمود بن رمضان المشدّد في تدخّله على أنّ بيت الحكمة يضطلع بواجب مجتمعيّ. وهذا ما يعبّر عنه برهان “مجتمع المعرفة” الذي يعني ضمن ما يعني سلطة المعرفي اقتصاديّا وسياسيّا وقيّميّا، واجتماعيّا بالمعنى الشامل، ألم تؤثّر تاريخيّا الثورات المعرفيّة في صناعة القرارات وتشكيل الرأي العام! ألم تعرّف التقارير الإنمائيّة للأمم المتّحدة مجتمع المعرفة على أنّه مجتمع الإنتاج العلمي ونشر المعارف! أليست الهوة بين شعوب السيادة وشعوب التبعيّة فجوة معرفيّة بالضرورة! ألسنا ملزمين بتجديد أنفسنا على دوام وفقا لمستجدّات النظام المعرفي السائد كونيّا! فهل يعقل أن نفكّر في قضايا الراهن بمنطق ماضوي، وبأدوات زمانها غير زماننا؟

تلك هي وجاهة سؤال أيّ مجمع نريد؟ الذي تجسّده لحظة تأمّليّة نقديّة حاسمة، لا تتنكّر للمنجز بل تدفع به نحو فتح الآفاق الجديدة إغناء للتجربة الملزمة بمواكبة جديد الحقل الفكري والانشغال بالقضايا الجوهريّة الراهنة، التي إن طرحناها كسبنا معركة نحت الكيان، وإن تجاهلناها أو جهلناها قذف بنا التاريخ خارج دائرة الفاعلين.

قد نكون على صواب إن سلّمنا بصعوبة اختزال مهام المجمع لأنّ الحقيقة عصيّة عن الاختزال، وغالبا ما يتداخل في نسيجها الذاتي والموضوعي، وحمّالة للمعاني المبرّرة لكثير من التأويلات، وعلى الرغم من صعوبة الحسم فيما نريد لأنّنا قد نريد أكثر ممّا نستطيع، لذلك سلّم الفيلسوف الألماني كانط بحتميّة سؤال “ماذا يمكنني أن أفعل؟”

بالمعنى الوجيز يمكن أن نراهن على مجمعنا في صناعة رأي عام مدرك بعمق لقضاياه الجوهريّة، خاصّة في ظلّ ثورة الميديا الاجتماعيّة والتكنولوجيات الاتصاليّة ذات النفوذ السحريّ على اهتمامات الشعوب، والمحتكرة لتقنيات التلاعب بالعقول وبالذوق العام.

فضاء للفكر الاستشرافي المشخّص

يمكن لمجمعنا أن يقود سفينة المجتمع المهدّدة برياح السجالات العقيمة، كما يمكنه أن يكون شاشة إشعاع مشاريعنا العلميّة وأطروحاتنا الفكريّة وإبداعاتنا لأنّه يمتلك كل المقوّمات كي يلعب وظيفة جسر التواصل بين المشروع الثقافي الوطني ومشاريع الثقافات العالميّة. وبإمكان بيت الحكمة أن يكون فضاء للفكر الاستشرافي المشخّص بدقّة العلماء للسائد وتقديم حلول المفكّرين من أجل تجسيد ما نريد.

صفوة القول تتنزّل الجهود الأكاديميّة ضمن عيادة تقديم الحلول العلاجيّة لجميع الأمراض الطارئة عملا بالشعار النيتشوي Nietzsche القائل “على الفلاسفة أن يكونوا أطباء الحضارة” لأنّ من واجب العلماء والمفكرين والأكاديميين والكتّاب أن يكونوا في الصفوف الأولى لخوض حروب مقاومة الفكر الدغمائي، والخطاب الخرافي، والوعي السطحي، وكافّة ضروب الفهم الساذج، لذلك تجرّع سقراط السمّ الإغريقي تمسّكا برسالته الفلسفيّة المتمثّلة في واجب تنوير الشباب الأثيني أوّلا، والتنوير الفلسفي الكوني لاحقا.

في نفس السياق تتنزّل محاكمات ابن رشد وقاليلي Galilée وسبينوزا، وغيرهم من الفلاسفة والعلماء، التي تترجم الارتباط العضوي بين الفكر والواجب الإيتيقي، أليس الفكر التحرري العالمي هو الذي حرّر الشعوب من النمط العبيدي! أليست الأعمال الإبداعيّة الخالدة هي التي تحتضن الكينونة الإنسانيّة كلّما تسلّل الإحباط وتهاوى المعنى! أليست منجزات العلم هي التي وفّرت فاكهة الرفاه! لندرك في هذا الإطار قصديّة (intentionnalité) سؤال أيّ مجمع نريد؟ لأنّنا عبره نتمكّن من فهم شروط صياغة الأسئلة التاليّة:
أيّ نظام معرفيّ نريد؟ أيّ لوغوس Logos نريد؟ أيّ فعل إبداعيّ نريد؟ أيّ فنّ نريد؟

قد نكون على وجاهة إن اختزلنا كلّ هذه الأسئلة في سؤال أيّ مجتمع نريد؟ تلك هي مضامين الأسبوع الاحتفالي الذي افتتحه المجمع بفنّ السؤال النقدي واختتمه بأسئلة الفن، إذ تداول الأكاديميون والباحثون يوميّا على إثارة تحديات البيئة ومستجدات المناخ، وقضايا التجارب الروحيّة لأنّ الإنسان يفلت بطبعه من التشيئ (chosification) مقدّمين رؤى علميّة وفكريّة تستوجب الإصغاء من المهتمين بهذه القضايا ومن المسؤولين عمّا يحدث بيئيّا، كما أبرزت نخبة من الجامعيين إسهامات وإنتاجات الفائزين بجوائز نوبل ورؤساء المجمع الراحلين أولئك الذين أسهموا في إشعاع المشروع الثقافي الوطني.

اتسمت جلّ التظاهرات بالطابع التساؤلي لأنّ هدفها الأسمى كان تقويميّا، لذلك بدا يوم الاختتام في ظاهره احتفاليّا عبر خشبة المسرح وشجن الموسيقى والحلم الطربيّ، لكن في باطنه كان يوما تساؤليّا بامتياز نتيجة طبيعة التحوّلات التي أملاها لوغوس المعارف الجديدة، ولعلّ هذا ما دفع برئيس قسم الفنون الأستاذ سمير بشة إلى التساؤل حول الطبيعة الإشكاليّة للذكاء الاصطناعي، فهل هو المتّسم بالذكاء الحق؟ وما الذي يقدّمه للذات الإنسانيّة؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن يتحوّل الكائن البشري في ظلّ سياقات هذا الطور إلى ضحيّة؟
ويظلّ الذكاء البشري الطبيعي وفقا لمقاربة الدكتور سمير بشة الذكاء المتحرّر من التضييق الحسابي على خلاف الذكاء الاصطناعي الذي يرتهن في نظره “بمعادلات حسابيّة” في حين أنّ التجربة الأنطولوجيّة تنهل من ينابيع “العقل والعواطف والمشاعر”. لنستشفّ ممّا تقدّم ضرورة تجديد سؤال أيّ نمط معرفيّ نريد؟ وعليه يكون سؤال الأسئلة أيّ نمط وجوديّ نريد؟

شارك رأيك

Your email address will not be published.