تونس- التشريعية: الوزير الأسبق محمد عبو يكتب: رحيل قيس آت لا محالة فإلى أين المسير؟

بقطع النظر عن نتائج ما يسمى بالانتخابات التشريعية والتي أظهرت أن قيس سعيد قد فقد الأغلبية التي دعمته ليلة 25 جويلية ليأسها من إمكانية إصلاح أوضاع ما قبل 25 جويلية.


فقد أمل الناس فيه وكل يوم يمر سيزداد اليأس منه، وهو ما سيؤدي حتما إلى تطورات تنتهي باضطراره للاستقالة وتجنيب نفسه والبلاد فوضى وربما مآس، أو تعرضه للعزل باعتبار عزله عملا قانونيا يهدف لإنهاء حالة انقلاب على أن يصاحب هذا العزل محاكمة عادلة له.
أتمنى من كل قلبي أن يغادر قيس سعيد الحكم طوعا بعد أن يعلن من جهته إلغاء الوثيقة التي أصدرها بعد استفتاء باطل والمرسوم عدد 55 لسنة 2022 المتعلق بالانتخابات والأمر عدد 117 لسنة 2021.
أتمنى أن يفهم قبل فوات الأوان أنه قد أخطأ خطأ جسيما بالانحراف من أحكام استثنائية مؤقتة إلى انقلاب وأن التوقف عن السير فيه سيكون من مصلحته هو ومصلحة البلاد واستقرارها، وخاصة أن يقتنع أنه لن يستطيع إطلاقا أن يحسن أي شيء في وضعه الخاص ولا في وضع البلاد. انتهت مرحلته بقي له فقط أن يورط نفسه ومن سيسايره في ارتكاب جرائم في حق مواطنيه للتشبث بسلطة طالما قال أنها أمانة وأنه زاهد فيها، وهي فعلا لا تستحق هذا ولا ما دونه.
عليه أيضا أن يفهم أن أجهزة الدولة التي يعول عليها للحكم خارج الدستور وضد إرادة الشعب أيضا، لا يعقل أن تكون مسرورة بما يقوم به من تدمير لوطن أقسمت على حمايته، سايرته ليلة 25 جويلية لأن أمره لم يكن بديهي اللاشرعية وربما لعلمها أكثر من غيرها بقتامة الوضع وقتها، ولكن لا يمكن أن نتصور أن لها مصلحة في بقاء الوضع على ما هو عليه خارج الشرعية وخاصة مع النتائج الكارثية وثبوت تخلي أغلبية الشعب عنه.


تبقى هنالك بعض المشاكل لا بد من إيجاد حل لها وأهمها أيّ تونس نريد بعد حكم قيس؟
هل نعود إلى نقطة الصفر؟ هل نعود إلى يوم 24 جويلية ونحتفل بعودة نظام ديمقراطي ولكنه فاسد وبالضرورة فاشل؟
كيف كان وضعنا قبل 25 جويلية؟ إن لم نجب على هذا السؤال، فسيكون مصير بلادنا سيء جدا بعد المرحلة القيسية وغالبا أسوأ بالنظر لما ستخلفه هذه الفترة من أضرار مالية واقتصادية ولما سينتشر من تكالب على السلطة ورغبة في السيطرة على مؤسسات الدولة وعلى وسائل الإعلام والدعاية، لضمان عدم الخروج من الحكم وفقدان السيطرة والتعرض لمخاطر للمحاسبة من جديد. هذا ينطبق على أطراف عديدة، ولا يجب اختزاله في حزب واحد، تذكروا هنا تجربة استبدال النهضة بنداء حتى لا نلدغ من الجحر مرتين.
قبل 25 جويلية كنا في نظام يوصف بالديمقراطي، استحقاقا بالنظر لما كنا عليه طيلة قرون من الاستبداد وبالمقارنة ببقية الدول العربية، وكنا أيضا في ديمقراطية تحكمها حكومات إما فاسدة أو تغض الطرف عن الفساد، إما تعمل على ألا تطبق القوانين أو تعجز عن فرضها.
كنا في مناخ لا يوحي بالثقة في الاستثمار ولا في مؤسسات الدولة ولا في استقرار الأوضاع ولا في المستقبل. مناخ من الابتزاز لأصحاب المؤسسات والارتشاء منهم لمحاباة بعضهم أو لحمايتهم من سلطة القانون، مناخ سيء انجر عنه تفويت فرصة على تونس لجلب الاستثمارات وخلق الثروة وكانت من تبعاته بطالة مرتفعة ومزيد من الفقر وتردي الخدمات وآلام لنسبة مهمة من سكان هذا الوطن. ومن العيب كل العيب أن يبقى من تسبب في ذلك لطمعه ومصلحته الخاصة ومصلحته الحزبية دون محاسبة.


يدعو البعض لاجتماع جل الأحزاب والقوى الحية في المجتمع على كلمة واحدة في مواجهة الانقلاب، وهي فكرة جيدة من حيث المبدأ ويمكن توجيه خطاب صريح للداخل والخارج حول عدم شرعية النظام والإعلان عن العودة إلى دستور 2014 (ضحية نخبة ألقت عليه الفشل وصدقها الناس)، وقد يساهم هذا في خلق ثقافة الوحدة الوطنية كلما تعرضت البلاد لمخاطر، ثقافة نورثها للأجيال التي ستلينا حتى لا يجرؤ كل من هب ودب على استغلال السلطة والسلاح ومنصب زائل للتنكيل بالشعب بمجرد إصدار أوامر بديهية اللاشرعية معولا على تفرق خصومه.
سيكون هذا جيدا ولكن لا يجب أن يفهم أحد أن إنهاء مرحلة قيس تتوقف على هذا. لو عدنا إلى تاريخ أيام الثورة لوجدنا أن أغلب المعارضة قد تقاعست حتى على المطالبة برحيل بن علي، بينما كان المنتفضون أكثر منها إقداما وثقة في النفس واستطاعوا أن يزيحوا بن علي وشاركهم في ذلك جزء من أجهزة الدولة من بين المخلصين لوطنهم، ولمّا تشتد الأزمة الاقتصادية سيتحرك الناس دون حاجة لأحزاب ودون تأطير ولا قيادة كما فعلوا أيام الثورة، غير أن المشكلة التي لا يجب الاستهانة بها هي التكلفة التي قد تكون باهضة، بحيث لا يرضاها لتونس إلا عدوّ لها.
يدعو البعض لتوحيد الجميع على أساس إنهاء حكم الانقلاب، مقترحين أن يعترف الجميع بأخطائهم باعتبار الجميع ساهم فيما نحن فيه، يعني باختصار أن من غرق في التمويلات الأجنبية وفي الأموال المتأتية من الابتزاز والارتشاء ومن أفسد الديمقراطية وأفسد الحياة السياسية وساهم في استغباء المواطنين عبر وسائل إعلامه والإعلام البديل، وأضر باقتصاد البلاد وساهم في تفقير التونسيين مخطئ، ومثله الذي لم يشاركه جرائمه ومثله أيضا الذي تصدى لجرائمه بالطريقة التي يراها مناسبة، وهذا أمر مقرف إلى أبعد حد، يزيد في تكريس الخلط وعدم الفهم لدى أغلبية المواطنين ويدفع في اتجاه عودة حكم الجريمة بعد سقوط الانقلاب وقد وقع تبييضه.
ألا تستطيع الأحزاب المورطة في الفساد أن تبعد قيادييها المشتهرين به أو المفترض أنهم مسؤولون عنه وأن يعلن الجميع في بلاغهم الموجه لأجهزة الدولة أن عليها حال استقالة قيس سعيد أو إقالته الشروع في التدقيق في ممتلكات السياسيين جميعا المسجلة بأسمائهم أو بأسماء أخرى وأن تبدأ المحاكمات الجدية دون تأثر بأي طرف؟
هل يقبل الجميع بهذا؟ بما في ذلك المورطة أحزابهم، والذين كانوا يستعدون لاقتسام فتات سلطة مع النهضة قبل 25 جويلية بعد قراءتهم لسقوط حكومة الفخفاخ، والذين يحركهم فقط بحثهم عن الاعتراف وطموحهم ويعولون في ذلك على المناورات والحوارات، واليائسون من التغيير المطبعون مع الرداءة، والمنشغلون بالترويج لفراستهم وفطنتهم التي جعلتهم يعلمون منذ البداية أن قيسا سينقلب دون أن يقدموا أي حل لتخليص تونس من حكم الانقلاب العبثي ومن مخاطر عودة حكم الفساد الذي سيكتفي إن عاد فقط بتمكينهم من نقده دون سجنهم، هل يقبلون؟
يتوهم البعض لضعف المعلومات عن الكواليس أنه يمكن ظهور أحزاب تختلف عن السائد يمكنها يوما أن تقنع التونسيين بالتصويت لها وتحل هي محل أحزاب الرداءة، فتنعم بلادنا بالخيرات، ولا ينتبهون إلى أن هذا الأمر قد يحصل فعلا ولكن أبدا في المدى المنظور.
لآلة الفساد بتفرعاتها الأجنبية والداخلية التي تملك أموالا طائلة قدرة على توجيه الرأي العام والتحكم فيه، هذا بالإضافة إلى قدرتها على اختراق جل الأحزاب، وتستطيع أن تسيطر على قراراتها خاصة لما تكون ديمقراطية بوسائل متعددة من بينها الهرسلة الإعلامية، وهي تستفيد من الهشاشة المنتشرة في كثير من المهتمين بالشأن السياسي مهما كانت نواياهم.
كانت الإجراءات المعلنة ليلة 25 جويلية فرصة لفتح الملفات وانطلاق المحاكمات ولإعلان مزلزل من الدولة أنها لن تتسامح مع الفاسدين بمختلف ألوانهم، ولكنّ قيسا ضيعها.
اليوم ينادي الكثيرون بعودة الوضع إلى ما كان عليه، لما شهدوه من تخريب قيس للدولة، ومثلهم حن الكثيرون لحكم الاستبداد بعد سنوات من الفشل بعد الثورة، والبعض ينظّر إلى أن الإصلاح غير ممكن بالنظر لثقل المسألة الثقافية.
للرد عليهم تحتاج البلاد لقلة تؤمن بأن التغيير ممكن رغم صعوبته الآن وأن الوطن يحتاج تضحية وأن في البلاد طاقات ستعمل لسؤددها وتبدع في وضع الحلول وخاصة في تنفيذها حالما تتحرر من قبضة الفاسدين وحالما يشعر جميع العاملين في الشأن العام بأن القانون يراقبهم ويحاسبهم وأن فرص الإفلات من قبضته ضعيفة وأن لا أمل لهم إلا في العمل بإخلاص وجدية لنيل المراتب التي يريدون بلوغها.
الحل العام موجود وهو العودة إلى دستور 2014 ولهيئة الانتخابات الشرعية وللمجلس الأعلى للقضاء وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في ظل القانون الانتخابي قبل تنقيحه الأخير والشروع الفوري في محاكمات يقصى منها القضاة الذين فرطوا في استقلاليتهم في أي عهد من العهود من بن علي إلى قيس والذين أثروا ثراء غير مشروع وبتعاون وانضباط تام من أمن يوفر المعلومة وينفذ تعليمات القضاء وبمساعدة من الجيش عند الضرورة، دون تدخلهم جميعا في السياسة ودون تدخل السياسيين فيهم فيما يتعلق بهذه المهمة.
أما التفاصيل فالأجدر أن تترك إلى لجنة من أساتذة التعليم العالي والأساتذة المحاضرين المختصين في القانون العام مع عميد المحامين ومستشار التشريع للحكومة، هذا الأسلم حاليا. غير ذلك سيكون صراعا للتموقع أو انقلابا على انقلاب.
لا تصدقوا من قال لكم ليس هناك حل، لكل مشكلة حل رغم الصعوبات، ولا تتأثروا بالحملات، كلما ارتفعت وارتفع عدد المنخرطين فيها كلما زاد انتباهكم لحجم الفساد والأنانية والتخلف المنتشر في بلادنا ولضرورة العمل على تغيير هذا. كونوا أنتم البديل عن الرداءة ولا تقنطوا من حلم تونس متقدمة مهما كانت التكلفة.
اللهم احم هذه البلاد من شرور بعض أهلها وحكامها

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.