مرثية من كارم يحيى: “وداعا عمدة “لافاييت” مختار التليلي

“كنت أمشي قبل قليل في الحي الذي أسكنه جنوبي القاهرة. ولم أكن قد غادرت المنزل منذ ثلاثة أيام. وأضطررت للخروج من أجل حقنة عضل تقيني تجدد آلام غضروف الفقرات، وتأثيره على الساق والحركة. وهي من المشكلات الصحية التي لم تظهر إلا بعد الستين. وكأنها كانت تتنظر ضرب جرس الانصراف من العمل في” الأهرام”.


وبينما خرجت للتو من “سوبر ماركت” محملا في اليد اليمنى ببعض المشتروات، واجتهدت في الإسراع بالمشي نحو المنزل حتى لايدركني الليل والبرد، إلا ووجدتني توقفت فجأة ودون سبب.
وعلى غير العادة، ألح فضول مفاجئ ـ وهكذا في الطريق العام ـ كي أطلع على تدفق تدوينات ” الفيس بوك”، وهي تنزلق عبر شاشة هاتفي المحمول. ونقلت ما معي من مشتروات إلى اليد اليسرى، ففاجأني نبأ وفاة الزميل الصحفي ” مختار التليلي”. وداهمني شعور بأنني فقدت قطعة من قلبي، وأن قوة قاهرة غير مرئية اختطفت منى عنوة صندوقا عزيزا من صناديق الذكريات تركته هناك في تونس، فبكيت.
سكنت بين نوفمبر 2016 وأغسطس ( أوت) 2018 حي “لافاييت” بوسط مدينة تونس حيث يقيم ” مختار التليلي”، والذي يكبرني بسنوات عديدة. وبمرور الوقت أطلقت عليه بيني وبين نفسي “عمدة لافاييت”، إذ لاحظت أنه يواظب يوميا على المشي في شوارع وأنهج الحي محتفظا بابتسامة ساحرة ملغزة على وجه ألفت تجاعيده، فأحببت إطالة النظر إليه.
وعندما انتقلت من السكن ببناية حديثة عصرية في نهج ليبيا، خلف معلم مول” الشامبيون” التجاري وحيث يضرب العباد المواعيد أمامه أو بمقاهيه الخلفية، إلى بناية عتيقة من عهد ” الفرنسيس” بشارع الحرية ومقابل مقر الإذاعة الوطنية تجاوز نصيبي من بهجة مصادفة “عمدة لافايت” لقاءات المارة فوق الأرصفة من حين لآخر. زادت مصادفات البهجة مع متابعته من نافذة غرفتي الأثيرة في الطابق الأول، وقد بات يمشى الهوينا. أبطأ فأبطأ دون أن تغادره ابتسامته، والتي لاتخلو من ميراث ” شقاوة صبي” و”دهشة طفل”. وكم مرة تعلق النظر من أعلى بيده تتدلى في حركة بندول وهي تطوح بلا اكثراث ما يحمل من أرغفة خبز ” الباجات”، دون أن تلامس الأرض.
و ربما كان لقاءنا الأول قبل أن أسكن “لافاييت” ببضع سنوات. وهناك على بعد خطوات معدودة من مقر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بشارع الولايات المتحدة. وعلى مقهى مجاور لها مع صحبة من الأصدقاء والزملاء الصحفيين جميعهم ـ وأنا معهم ـ يصغرونه سنا. وعلمت منذئذ أنه زميل صحفي مخضرم في المهنة. ولاحظت من اللقاء الأول أنه مع وجهه البشوش، و التي تزيده خطوط التجاعيد ألفة، ميله للصمت والإنصات للآخرين.
و لعل من عرفنا ببعض أكثر كان هو الصديق والزميل “خميس الخياطي”. وعلى الأرجح كان المكان في مقهى ” الأقصر” قرب نهاية شارع “الولايات المتحدة” باتجاه حديقة ” البليفدير”. وهذا على الرغم من أن جلسات صديقنا “خميس” اليومية “بالأقصر” عامرة في الأغلب بأصدقائه من المثقفين والفنانين. وفي كل الأحوال، ظل “عمدة لافاييت” عندي هو أكثرنا إنصاتا وصمتا وابتساما وبشاشة.. واهتماما أيضا بما تقول.
في إحدي الليالي الشتوية الباردة كنت عائدا للمنزل عبر شارع الولايات المتحدة، فوجدته بمفرده يجلس خارج المقهى غير عابئ بالبرد. وأظنها هذه هي المرة الوحيدة التي أتيح لي مبادلته حديثا مستفيضا، وأسمعه يتحدث بتدفق. وما يعلق بذاكرتي اليوم أنه روى لي حكاية انتقاله مع أسرته طفلا أو صبيا من بلدة بالجزائر إلى تونس، وجانبا من تفاصيل عمله في الصحف الجزائرية باللغة الفرنسية التي يجيدها منذ الصغر، وصولا إلى جريدة ” لابريس” بتونس.
و بدأت السماء خلال حديثه الدافئ تمطر رذاذا، وهو يحدثني بشغف عن ابنته الشابه المقيمة بعيدا خارج البلاد. حينها بدا وجهه قريبا مني جدا. وأبصرته كقمر مكتمل يشع بضوء أخاذ. واشتد المطر، لكن كلانا لم يتحرك من مقعده فوق الرصيف، أو يقترح على جليسه أن نهرع للداخل، أو إلى تحت مظلة تقينا البلل.
لا أعرف لماذا يظل مختار التليلي “عمدة لافاييت” بالنسبة لي مثالا للاستمتاع بسنوات ما بعد العمل في المؤسسات الصحفية. استمتاع يظل للكثيرين بعيد المنال أو المستحيلات. لا أظن أنه اشتكى لي مرة أو سمعته يشتكي لآخرين من إعتلال صحته، أو من قسوة زمن أو وحدة.
أتأمل فأكتشف اليوم كونه بالنسبة لي بمثابة نموذج أعلى في حب الحياة. تسعده أشياء بسيطة كاحتساء قدحي بيرة مع صديقه “خميس” فوق طاولة مشتركة، أومجرد المشي الهوينا على أرصفة شوارع وأنهج ” لافايت”، متفقدا أحوال وتحولات الأحجار والأشجار و القطط والبشر، وابتسامته لاتفارقه، وهي تناوش تجاعيد وجهه الطيب. يطمئن عليها جميعا وكأنه ” عمدة قرية”. وهكذا كنت لا أمل من متابعته من نافذتي حتى تغيب خطواته مع انعطاف خطواته إلى شارع جانبي.
ولا أعرف لماذا لم أسأله مرة عن هل له صلة قرابة بالزعيم النقابي “أحمد التليلي”،والذي كان من بين مؤسسي اتحاد الشغل عام 1946 وأمينا عاما له لسنوات بين الخمسينيات والستينيات؟. وهذا مع مالفت نظري خلال ترددي على تونس وإقامتي بها من كتابات ومحاضرات عن رسالة “التليلي” الجريئة الشجاعة للرئيس “الحبيب بورقيبة” منتقدا غياب الديمقراطية والاعتداء على الحريات بعد الاستقلال وتحوله زعيم يناضل من أجل استقلال بلاده إلى حاكم مستبد على شعبه. أسأل نفسي اليوم لماذا لم أستفهم من “مختار” عن ” أحمد”، وكلاهما “تليلي”؟ ، فلا أجد عندي إجابة.
ولعلني كنت مكتفيا بحضور ” عمدة لافاييت” كفراشة تسابق في خفتها الهواء.. فراشة دائمة الطيران والجمال.
.. رحم الله سي “مختار التليلي”..
وبلسم قلوب ابنته التي يحب ويفخر بها، ومعها من كان قد تبقى له من أسرة وعائلة . وبالطبع كل أحبائه وأصدقائه، وبخاصة رفيق بهجته الخاصة جدا ” خميس الخياطي” .
وبلسم أيضا قلوب كل أحبائه وأصدقائه.. وقطعة من قلبي تركتها هناك معه في “لافاييت”.
وتعازي للجميع على البعد .. ومن القاهرة.
.. وأسفي أنه لو قدر لي وعدت يوما فلن أجد ” لافاييت” التي عرفت وعشت.

مساء السبت 14 يناير/ جانفي 2023″.

شارك رأيك

Your email address will not be published.