مجلس النواب الجديد في تونس : من التوافقات إلى بناء الثقة

العمل النيابي وآلياته التشريعية قضية جوهرية في مجال السياسات العامة وتقييمها. والسؤال المطروح لدينا هل سيصبح مجلس النواب الجديد في تونس فاعلا في الإصلاح أم هو في ذاته يحتاج إلى ذلك؟

بقلم العقيد المتقاعد محسن بن عيسى

الكثير يعوّل على إمكانية تجنب أخطاء الماضي، ومعالجة حالة الإحباط التي استقرّت في النفوس بسببه. لا زال قرار تجميد البرلمان ماثلا، والكل يأمل في أن يعكس المجلس الجديد الرّغبات الإصلاحية وتطلعات الشعب نحو المستقبل، وأن يكون العامل القانوني هو الحاسم في دوره الرقابي والتشريعي. ومهما اختلفنا أو اتفقنا مع حصيلة “الدورة السابقة” فإن الصورة الثابتة لدى الرأي العام هي تشرذم الطبقة السياسية وخضوعها لمصالح لكل حزب على حساب المصلحة الوطنية.

حدود تجربة “التوافقات”

يحتاج الشعب إلى وقت لنسيان الصورة القاتمة التي عكسها المجلس السابق خاصة في مراحله الأخيرة، والتي تحتاج إلى التأمل والتأصيل لتحليل أسبابها وجميع العوامل التي أسهمت في قيامها وسقوطها. فمن سخرية التاريخ أنّ تعيش “السلطة التشريعية”، تجربة “التوافقات” التي كانت حصيلتها صادمة. وغنيٌّ على البيان أنّ نؤكد أنها أشاعت نوعا من الفوضى، وعدم الثّقة بشكل جعل تداعياتها تصل إلى مؤسسات الدولة وتنعكس على النظام السياسي برمّته.لقد حمل دستور 2014 أَثَرَ التغيير، ولكنه تضمّن عديد الالتباسات، وعاشت الدولة في ضوئه حالة صراع سياسي-اجتماعي لا يمكن المراهنة فيها على التقدّم ولا على توفّر الاستقرار.

لقد كان من المتبادر أن يستاء البعض من هذا الوضع وأن ينزعوا إلى التفكير في انتشال البلاد من هذه الهوّة التي تردّت فيها. هناك مواقف خطيرة سُجلت لمْ تُكتب كما يجب، وعودة الوعي بها هي من أسس الخروج من الأزمة.

من الملفت للنظر أنّ بعض الأقلام الموجهة كتبت عن مسار تونس بعد 2011، وبالغت منذ 2014 في قدرة النّخب التي برهنت في نظرها على نضج مُنقطع النظير، وعن نجاح في تحقيق توافق جنّب البلاد عدم الاستقرار. القلم الحر هو الجدير وحده بتحمل مسؤولية الكلمة، وعبء توجيه الرأي العام على أسس حقيقية.

إحياء الوظيفة النيابية

يمارس النائب الوظيفة النيابية كتعبير عن رغبات وأماني الشعب واتجاهات الرأي العام. ويحوز بانتخابه على تمثيل الناخبين والنيابة عنهم وما يفرض ذلك من واجب تأدية الرسالة والتمسّك بالنزاهة والإستقامة. وعلى هذا المعنى فإنّ الارتقاء السياسي بفكر الشعب يعني الارتقاء السياسي بفكر النائب. وبصورة أخرى تثقيف الشعب وجعله فاهما ومدركا لاصطفاء نائب ذي وعي وفهم وإدراك إلى قبة البرلمان.

كل الدول تسعى على اختلاف أنظمتها السياسية إلى التمسّك بالديمقراطية ودعم مؤسساتها الدستورية. ولكن ليست كل المجالس النيابية عاكسة لسلامة النظام السياسي. فالعديد من التجارب أثبتت أنّ تواجدها لا يعدّ دلالة قاطعة على ممارسة الديمقراطية، فلقد حرصت بعض الأنظمة تاريخيا على وجود مجالس ولكن بوجود شكليّ فاقد لكلّ حيوية ومُجرَّد من صلاحيته.

هناك مؤشرات على بداية مرحلة جديدة نحو الإصلاح لدينا، خاصة أمام عزوف الناخب من السياسة نتيجة ممارسات النواب سابقا. أُدرك أنّ المسافة بين الرغبة الحضارية والمؤسسات الدستورية ما زالت كبيرة، ومن ثمّ أحسب أن جهدا كبيرا لابدّ أن يبذل من طرف أهل الفكر والسياسة لتحقيق هذه الرغبة. إننا بالفعل بحاجة إلى أن نضع الفكر الاستراتيجي في كل مجالات عمل البرلمان، وأن نبلور تصورات تفضي إلى إستراتيجيات وفي طليعتها الاستراتيجية التنموية.

نحن نضع أمامنا خبرة وتجربة 66 سنة الماضية من العمل النيابي حتى نعرف ماذا اريد بها، وماذا لم يتحقق فيها. هناك ضرورة لتوجيه البرلمان نحو مهام بديلة عن الجدل السياسي، مهاما تأخذ في عين الاعتبار إحياء الوظيفة النيابية وتأثيرها على المعيشة اليومية للمواطنين.

بناء جسور الثقة

يتداول المهتمون بالسياسة وقضايا المجتمع منذ استئناف المجلس أشغاله، بعض المصطلحات المواكبة لعل أبرزها “فقدان الثقة” او “إعادة بنائها” وأحيانا “الثقة الغائبة” أو “بناء الجسور”. ذلك أنّ بناءها وإشاعة قيم الالتزام والبحث عن تسويات هو شرط العبور للمرحلة القادمة. شرط ليس مجرد مفتاح نجاح فقط بل صمّام أمان لاستلهام الماضي واستنهاض الحاضر لمواجهة الدوافع التي تسببت في إشاعة التوتر والشك وسوء الظن.

لقد أورثت الحقبة السابقة البلاد عُقدة الشك وغذّته حتى أصبحت من قيمنا السياسية، والمؤمل أن تتجاوزها النخب وتستبدلها ببناء التعاون. فهو جزء لا يتجزّأ من التسوية السياسية وليس بديلا عنها.

علينا الإقرار بأننا نقف جميعا على أرضية متصدّعة وأمامنا مجالات كبرى تستحق الحوار البنّاء في سير الانتخابات، ومبدأ فصل السلطات، ودعم استقلالية القضاء، وتجسيم سيادة القانون، فضلا عن اعتبارات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ومكانة تونس بين الدول. هناك حاجة إلى التعامل مع الاعتقادات والتصورات الخاطئة ومعالجتها. وهذا الأمر يتطلب تدابير حتى تأخذ تونس موقعها في النظام العالمي ونظام المنطقة الاقتصادي على وجه الخصوص.

والأهم، أن نظلّ الشعب السيّد في الوطن السيّد، ولا مجال أن تتورّع أوروبا أوغيرها في الحديث عن ضمانات يطلبونها في حين أنهم يتناسون دورهم التاريخي والأدبي والمعنوي في صعوبة الوضع لدينا.

ضابط متقاعد من الحرس الوطني.

شارك رأيك

Your email address will not be published.