من وحي أحداث جربة : متى نُقلع عن سياسة الإنكار؟

أحيانا، مسؤولونا الكبار، حتى و هم يتوجهون إلى العالم الخارجي، يستعملون القاموس اللغوي الذي يستعملونه في التخاطب معنا أو التشريع لنا كتونسيين. فإن كنا نحن مُجبرين على قبول ذلك و التعاطي معه بالطاعة و الإذعان، خاصة إذا صيغ في شكل قوانين، فهل سيقبل المجتمع الدولي، في حال كان معنيا بذلك، القاموس الخاص بنا؟ (الصورة : كنبس الغريبة بجربة).

بقلم محمد صالح الحمايدي

نأتي مثلا، في دستورنا، بتعربف مؤسسات الدولة الثلاث الكبرى و هي المؤسسة التشريعية و المؤسسة القضائية و المؤسسة التنفيذية التي تسميها الدول التي تقوم أنظمتها السياسية على مفهوم ما هو معروف عند الجميع بالسلط التشريعية و القضائية و التنفيذية، و على التفريق و التوازن فيما بينها، و نطلق عليها اسم “وظائف”. هل ستتبع الأنظمة التي نلتقي معها في البناء الهيكلي لدولة المؤسسات و القانون ما أحدثناه في قاموسنا الدستوري و تستعيض به عما جاء في تعريف Montesquieu تلك الهياكل؟ و هل سيلتزم أساتذة القانون الدستوري في كلياتنا بهذا القاموس في تدريسهم لمادة القانون الدستوري؟

جدت مؤخرا حادثة أليمة في جزيرة جربة راح ضحيتها عدد من التونسيين و الأجانب بين قتلى و جرحى. منفذ هذه العملية عنصر من سلك الحرس الوطني قتل زميله في غفلة منه (هنالك رواية تقول أنه ذبحه على الطريقة الداعشية و هناك الرواية الرسمية التي تقول أنه أطلق عليه النار من مسدس) و استولى على سلاحه و ذخيرته و امتطي سيارة نارية يستعملها الحرس البحري و قطع بها مسافة 13 كلم ليصل إلى معبد الغريبة الذي تقام فيه مراسم حج ذوي الديانة اليهودية من تونسيين و أجانب. و لما وصل، شرع في إطلاق النار بصفة عشوائية، فأصاب العدد المذكور من قتلى و جرحى في صفوف المدنيين من الحجاج اليهود المتواجدين خارج المعبد والأمنيين الذين تمكن زملاؤهم من إردائه قتيلا في ظرف 112 ثانية (رقم قياسي لرجال أمننا البواسل).

هذه الحادثة وُصفت من طرف رئيس الجمهورية و من بعده من طرف وزير الداخلية بأنها “عمل إجرامي” و لم توصف، خلافا لكل العمليات الشبيهة بها التي حصلت في الماضي، بأنها “عمليه إرهابية”، رغم أن وزير الداخلية قد قال، في النقطة الصحفية التي عقدها، أن البحث العدلي الذي انطلق بشأنها سيحدد أيضا من خطط لها و أذن بتنفيذها.

مرة أخرى نمضي في سياسة الإنكار مستعملين مع العالم الخارجي الذي فيه من هو معنى بهذا الحادث باعتبار سقوط أحد مواطنيه قتيلا فيه، قاموسا خاصا بنا و كأن الجريمة الإرهابية و جريمة الحق العام غير معرفتين في القانون الدولي و القانون المحلي.

“العمل الإجرامي” على معنى القانون الجزائي هو الذي يقوم به المجرم لتحقيق هدف خاص به و من أجله هو، بينما “الجريمة الإرهابية” هي العمل الإجرامي الذي يقوم به شخص أو مجموعة من أجل هدف سياسي.

هل في قضية الحال، عون الحرس الذي قتل زميله ليفتك منه سلاحه و ذخيرته و يمتطي سيارة نارية ليقطع بها مسافة 13 كلم قاصدا معبد الغريبة في وقت يتجمع فيه عدد من الحجاج تحت حراسة مشددة من قواتنا الأمنية عالية الكفاءة و التدريب، و حالما وصل شرع في إطلاق النار بصفة عشوائية على كل من كان في مرماه، قد قام بكل ذلك من أجل سرقة كنز ليصبح غنيا أو للانتقام من فرد له معه خصومة شخصية مثلا و يعتقد أنه موجود في ذلك المكان و في تلك اللحظة؟ من سيصدق في الدنيا قاطبة هذه الرواية؟

ألم نتعض بما حصل لنا سابقا (2002)، في نفس الموقع لما صنعنا رواية من نسج الخيال ما زلنا إلى اليوم نعاني من تبعاتها حيث لم تعد السوق السياحية الألمانية التي كانت السوق الأولى لبلادنا إلى سالف موقعها لأن معظم قتلى 2002 كانوا من ذوي الجنسية الألمانية.

رجل قانون.

شارك رأيك

Your email address will not be published.

error: لا يمكن نسخ هذا المحتوى.